مواقف ألمانيا وإسبانيا تكشف تناقضات أوروبا تجاه فلسطين
أحدث العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، منذ أكثر من عام، اختراقا لافتا في المواقف الأوروبية، ليس على المستوى الشعبي وفي شوارع المدن فقط، ولكن أيضا على المستوى الدبلوماسي والسياسي لدى الحكومات.
وكان للعَلم والرموز الفلسطينية حضور طاغ في المسيرات التي نددت بالقصف الإسرائيلي الذي لم يتوقف، وتسبب في استشهاد وجرح وفقدان عشرات آلاف المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsالعدوان على غزة ولبنان يهوي بتوقعات نمو اقتصاد إسرائيل
وعمت الفعاليات والمظاهرات المناصرة لغزة شوارع العواصم والمدن الأوروبية من مدريد إلى ساحات لندن وبرلين، وصولا إلى بروكسل مقر مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
تأييد غير مسبوق
ولم يسبق أن حظيت القضية الفلسطينية بالتأييد، في الشوارع الأوروبية، بقدر ما حظيت به من دعم واسع بعد العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة وإغراقه في دمار غير مسبوق.
يقول رضوان قاسم مدير "مركز بروجن للدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية" في ألمانيا إن الخطاب الأوروبي المسوق لحقوق الإنسان سبب حرجا لدى الحكومات "ومن هنا كانت هناك بعض الليونة في بعض العواصم بالسماح لبعض المظاهرات بالخروج، لكن السلطات في عدة دول حرصت على أن تكون الشعارات المرافقة لها مدروسة".
ويتابع -في حديثه مع الجزيرة نت- أنه في حين كان الموقف الشعبي الأوروبي بمجمله واضحا عبر الكثير من المظاهرات المنددة في الشوارع ضد انتهاكات حقوق الانسان والاعتداءات التي ارتكبتها إسرائيل ضد المدنيين، كان في المقابل موقف الحكومات الأوروبية مختلفا "فقد رأينا قمعا من قوات الأمن للمظاهرات لا سيما في ألمانيا تحت ضغوط لوبيات إسرائيلية".
ورغم أن الفقرة الخامسة من الدستور الألماني تؤكد على حرية التعبير والرأي، إلا أن المظاهرات مُنعت في كثير من المقاطعات، والسبب في ذلك يعود إلى "أن سياسة ألمانيا مقيدة بالشعور بالذنب بسبب الإرث النازي ضد الأقليات اليهودية" وفق قاسم.
ويقول المركز الألماني للإعلام في تعريف ما قامت به الدولة الألمانية -فيما يرتبط تحديدا بالعلاقات في الشرق الأوسط- إن الحكومة الألمانية تعتمد مبادئ أساسية في التقييم السياسي لمشاريع القرارات، ومنها أساسا "المسؤولية التاريخية عن دولة إسرائيل اليهودية والديمقراطية وحقها في الوجود".
وترجمة لهذا الموقف، فقد أعلن المستشار أولاف شولتس يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي "في هذه اللحظة لا يوجد سوى مكان واحد لألمانيا: إلى جانب إسرائيل" وهو الموقف الذي أعرب عنه أيضا البوندستاغ (البرلمان).
تراجع الدعم
ومع كل ما سبق، فإن استطلاعات رأي أظهرت تضاؤلا في دعم المواطنين الألمان لإسرائيل، ويعد هذا في حد ذاته اختراقا غير مسبوق ويضع وجهة النظر الواحدة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني على المحك.
وكشف أحدث استطلاع أجرته مؤسسة "إيه آر دي" الألمانية في أغسطس/آب الماضي عن تزايد في الموقف المناهض للحرب الإسرائيلية على غزة بين الألمان.
ووفقا لنتائج الاستطلاع فإن 57% من المشاركين يعتقدون أن رد إسرائيل على هجوم طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول كان مبالغا فيه، بينما رأى 21% فقط أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة ملائمة.
ويبدو التغير الأكثر وضوحا في النقطة المرتبطة بالدعم العسكري، حيث أشار نفس الاستطلاع إلى أن أكثر من 68% من المشاركين يعتقدون أنه من الخطأ أن تقدم ألمانيا الدعم العسكري لإسرائيل، في حين أن 19% فقط يؤيدون هذا الدعم.
وعلى العموم برزت مواقف الدول الأوروبية متناقضة في التعاطي مع الوضع في قطاع غزة، مثلما كان الأمر في كثير من الملفات الدولية.
ويوضح رئيس "مركز بورجن" أن ضعف المواقف الأوروبية وتناقضاتها لا يرتبط بموضوع غزة فحسب، ولكن في عديد الملفات الأخرى، مثل الملف الإيراني والأوكراني لا سيما بخصوص الدعم العسكري.
جوزيب بوريل
ووحده كان منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل قد أعلن عن دعم صريح لقضاة المحكمة الجنائية الدولية، التي سعى المدعي العام فيها إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وهو الذي وصفه وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس في تغريدة له على منصة إكس في 13 سبتمبر/أيلول بقوله "بوريل معادٍ للسامية وكاره لإسرائيل، شغله الشاغل تمرير قرارات وعقوبات ضد إسرائيل في الاتحاد الأوروبي، لكن يتم لجمه بواسطة غالبية دول الاتحاد".
كما أشار الكاتب الإسباني أوخينيو غارثيا غاسكون، في مقال نشر بالتزامن مع تعيين وزير الخارجية الإسباني (وقتها) جوزيف بوريل مسؤولا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي عام 2019، بقوله إن من شأن تعيين بوريل بهذا المنصب تعقيد العلاقات مع إسرائيل، مشيرا إلى أن صحيفة "إسرائيل اليوم" أكدت أن حكومة نتنياهو تشعر بخيبة أمل إزاء هذه الخطوة.
ورفض بوريل الربط الآلي بين الانتقادات التي توجه إلى سياسات الحكومة الإسرائيلية والاتهامات بمعاداة السامية، ويتسق هذا الموقف مع موقف الحكومة الإسبانية التي مثلت جبهة مقابلة لألمانيا داخل الاتحاد الأوروبي.
الاستثناء الإسباني
وتقودنا مواقف بوريل إلى إسبانيا التي لم يتوقف الدعم فيها لقطاع غزة عند المسيرات الشعبية بالشوارع والساحات والرسائل التضامنية فوق مدرجات الملاعب الرياضية، بل تبنت الحكومة مواقف دبلوماسية على النقيض من مواقف أغلب حكومات المعسكر الغربي. وبرزت كحاملة مشعل القضية الفلسطينية داخل الدوائر الأوروبية في مواجهة الدور الألماني.
ففي خطوة سياسية رمزية، بادرت إسبانيا إلى الاعتراف رسميا بدولة فلسطين إلى جانب أيرلندا والنرويج، ولاحقا سلوفينيا، مما يرفع عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 148 من أصل 193 دولة بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
كما حثت مدريد حكومات أخرى بالاتحاد الأوروبي لأن تحذو حذوها، وقال رئيس الحكومة خوزي مانوال الباريس، في مايو/أيار الماضي في بروكسل، إن هذه الخطوة ضرورية من أجل التوصل إلى السلام، مضيفا "القرار عادل ويحق للفلسطينيين التمتع بدولة تماما مثل الإسرائيليين".
وأفرجت السلطات الإسبانية عن مساعدات طارئة بقيمة 3.5 ملايين يورو لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في وقت علقت فيه دول أخرى تمويل هذه المنظمة بسبب مزاعم حول تورط موظفين لديها في هجوم طوفان الأقصى، ومع ذلك أعلنت مدريد عن مساعدات جديدة بقيمة 20 مليون يورو للوكالة التابعة للأمم المتحدة.
وفي تفسيره لمواقف الحكومة الإسبانية، قال أنطوان دي لابورت، المتخصص في الشؤون السياسية الإسبانية بمؤسسة "جان جوريس" إن إسبانيا كانت من أوائل الدول التي دافعت عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها "ولكن مع الالتزام الصارم بالقانون الدولي الانساني. ومع مرور الأسابيع باتت في طليعة الدول المنددة بالعدوان الذي أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، مما أثار توترا دبلوماسيا مع إسرائيل".
وحسب دي لابورت، لا يرتبط الدعم الإسباني للقضية الفلسطينية بالخط السياسي اليساري لحزب رئيس الحكومة، وإنما يتعداه إلى كامل طيف اليسار الراديكالي.
ثقل القضية
ويتابع الخبير بمؤسسة جان جوريس -في تقرير لموقع "فرانس إنفو"- أن الأمر لا يقتصر على مجرد تقليد أيديولوجي فحسب، بدليل نتائج استبيان أجراه معهد "الكانو الملكي" في إسبانيا والتي تظهر الثقل الذي تتمتع به القضية الفلسطينية في الوعي الشعبي الإسباني.
وتشير النتائج إلى أن 60% من الإسبان يعتبرون أن حل الصراع الطويل بين إسرائيل وفلسطين يكمن في وجود دولتين منفصلتين، وأن 78% منهم يؤيدون الاعتراف السريع بالدولة الفلسطينية.
ويشير التحليل المرافق لنتائج الاستبيان إلى أن هذا الموقف هو التعبير الأكثر حضورا ليس لذوي التوجهات اليسارية فحسب، ولكن أيضا لدى الأغلبية في جميع الفئات الأيديولوجية وجميع المستويات التعليمية.
ويعلق دي لابورت على ذلك بأن لدى الرأي العام الإسباني وجهة نظر دقيقة حول الصراع بين إسرائيل وفلسطين، وهو قادر على التمييز بين هذه المواجهة الطويلة بالفعل وما يحدث في غزة.
وفي كل الحالات، يعكس التطور -الذي تظهره بوضوح البيانات- الوعي الجماعي في إسبانيا، ففي عام 2016 كان الرأي السائد لدى الإسبان هو إلقاء المسؤولية في إدامة الصراع على كلا الطرفين بنسبة تعادل 63%، لكن بعد حرب غزة انخفضت هذه النسبة إلى 34%.
وفي المقابل، يعتقد 50% أن اسرائيل هي المسؤولة عما يحدث في غزة، في حين أن نسبة الذين يعتقدون أن الفلسطينيين هم المسؤولون عن الوضع في غزة تمثل أقلية ولا تتجاوز 16%.
كما يكشف الاستبيان عن تطور آخر لافت لدى الرأي العام الإسباني، وهو الانخفاض الحاد في دعم "حل الدولة الواحدة لليهود والفلسطينيين" مقابل الزيادة في دعم حل الدولتين. وفي المقابل يحظى ضم إسرائيل للأراضي المحتلة بنسبة تأييد محدودة جدا لا تتعدى 3%.
إرث فرانكو
من المفارقة أن الدعم الدبلوماسي الإسباني للقضية الفلسطينية برزت ملامحه تاريخيا في ظل حكم فرانكو الذي سعى إلى اعتماد "سياسة الاستبدال" في مواجهة سياسة العزل الغربية فترة الحرب العالمية الثانية، عبر التحول إلى شركاء جدد بأميركا اللاتينية والشرق الأوسط، الأمر الذي سمح له بتعزيز علاقاته الدبلوماسية مع الدول العربية، وفق ما توضحه المؤرخة روزا ماريا باردو سانز في مقال مخصص للسياسة الخارجية الإسبانية.
وعلى الجهة المقابلة، لم يعترف نظام فرانكو بدولة إسرائيل، وظل هذا الموقف قائما حتى عام 1986، ولم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين مدريد وتل أبيب قبل ذلك التاريخ.
وحتى مع انتهاء حقبة نظام فرانكو بوفاته عام 1975، لم تحد مدريد عن دعمها للقضية الفلسطينية. وفي عام 1979، استقبل أدولفو سواريز، أول رئيس للحكومة خلال الفترة الانتقالية، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، في مدريد، وأصدرت الحكومة آنذاك قرارا بفتح تمثيلية دبلوماسية فلسطينية بإسبانيا.
وتتمتع القضية الفلسطينية في إسبانيا بحضور قوي لدى كل من حزب العمال (اشتراكي ديمقراطي اجتماعي) والحزب الشعبي (ليبرالي محافظ) وهما الحزبان التقليديان في السياسة الإسبانية مرحلة ما بعد فرانكو.