انقلاب النيجر.. مفاتيح لفهم ما يجري إثنيا واقتصاديا وإستراتيجيا
لم يكن انقلاب النيجر فاتحة للانقلابات في أفريقيا ولا يُتوقع أن يكون آخرها. ولكنه دون غيره، أحدث ارتباكا على المستويات الدولية والإقليمية، مما استدعى قراءة متأنية في الأسباب والخلفيات التي جعلت لقلب الصحراء هذه الأهمية وهزت المجتمع الدولي بهذا القدر، فلماذا كل هذا القلق مما جرى في نيامي؟
النيجر تاريخيا
أثبتت الأبحاث التاريخية الأفريقية أن منطقة النيجر كانت مأهولة منذ 60 ألف سنة، وأنها ظلت منذ غابر التاريخ معبرا للتجارة جنوبا وشمالا، كما عبرتها الغزوات والحروب في اتجاهات مختلفة.
كانت الصحراء في شمال النيجر موطنًا لسلسلة من المجتمعات التي عاشت على حافة البحيرات والأنهار في عصور ما قبل التاريخ، كما ازدهرت عدة إمبراطوريات في المنطقة التي تعتبر النيجر الآن جزءا منها، مثل إمبراطورية "سونغاي" التي كانت أكبر دولة في أفريقيا قاطبة، وإمبراطورية "كانم" (بورنو) التي حكمت لأكثر من ألف سنة، وإمبراطورية "الهوسا" التي كانت مركزا للتجارة والثقافة. ولذا، فلهذا البلد أهمية حاضرة منذ القدم وليس حديثا فحسب.
حقائق عن النيجر
ومع العمق التاريخي الذي تتميز به، إلا أننا أمام حقائق أخرى تتفرد بها النيجر دون غيرها، حيث تُعتبر:
- أعلى بلدان العالم خصوبة (القدرة على إنجاب الأطفال) بمعدل 6.9%.
- أكثر بلاد العالم فقرا وأقلها نموا.
- غالبية مساحة البلاد عبارة عن صحراء (أربع أخماس المساحة الكلية).
- أعلى بلدان العالم حرارة، ويُطلق عليها "مقلاة العالم".
- فيها أعلى المنارات ارتفاعا في العالم، ومبنية من الطوب البدائي (اللّبن).
- الشعب الأقل سمنة في العالم حسب تقارير منظمة الصحة العالمية.
- موطن لأكبر المناطق المحمية في العالم بمساحة 773 ألفا و600 كيلو متر مربع محاطة بالصحراء.
التوازنات الإثنية
مقارنة بعدد من الدول المجاورة، تعتبر النيجر محدودة التكوين العرقي، فلا تتجاوز المجموعات الإثنية فيها 15 مجموعة في الحد الأقصى، وتأتي في المقدمة قومية "الهوسا" بنسبة 53% من السكان، تليها "الزرما أو سونغاي" 21% و"الطوارق" 11% ثم "الفولاني" 8% و"الكانوري" 6% وما تبقى يتوزع على العرب و"التبو" و"القورمانسي".
وصعدت قومية "الزرما" إلى السلطة منذ الاستقلال، وتعمد الفرنسيون إبعاد "الهوسا" خوفا من التحالف مع إخوانهم في نيجيريا. وفي هذا الإطار نقل الفرنسيون العاصمة من زيندر إلى نيامي وفقا لجبريل إبراهيم، أول خريجي المدرسة الإقليمية في نيامي وينتمي للزرما، وهكذا أصبحوا أول القادة السياسيين.
ولكن مع تطور النخب السياسية والثقل الاقتصادي والثقافي والحضور الاجتماعي للهوسا، تقلّدوا موقع القيادة في النيجر لاحقا، فأصبح الرؤساء منهم. أما الطوارق، فدخلوا في صراع مع الحكومة وطالبوا بالحكم الذاتي أحيانا، وتم التغلب على ذلك بالمصالحة.
ويمكن اعتبار النيجر من أكثر الدول استقرارا عند الحديث عن العلاقات الداخلية بين مكونات البلاد العرقية.
الأهمية الإستراتيجية للنيجر
تحتل النيجر موقعا جغرافيا مركزيا في منطقة الساحل التي تمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر شرقا. وظلت النيجر منذ أقدم العصور بوابة للعابرين من دول أفريقيا إلى الجنوب، وشمالا من جنوب الصحراء.
وتُعتبر مدينة أغاديس المحطة بين تلك الاتجاهات، ولا تزال معبرا تستخدمه الحركات المسلحة للتنقل بين المناطق الساخنة في هذه المنطقة التي ينعدم فيها القانون.
وتزداد أهمية هذه المنطقة بالنسبة لفرنسا وحلفائها بعد فقدانها عددا من الدول في القارة السمراء لصالح منافسيها، وتململ الشعوب الأفريقية بحثا عن الخلاص من المستعمر القديم.
مركز للقواعد العسكرية
شهدت النيجر حالة من الاستقرار لأكثر من عقد في الفترة الأخيرة، مما أهلها لتقدم نفسها على أنها واحة للاستقرار في محيط مضطرب، وشريك موثوق للدول الغربية.
وفي الوقت الذي كان القلق الغربي يتصاعد من انتشار الحركات المتطرفة وموجات الهجرة إلى أوروبا، أصدرت حكومة النيجر قانونا يجرّم نقل المهاجرين في جميع أنحاء غرب أفريقيا، وحصلت بالمقابل على مساعدات أوروبية وإنمائية.
وجذبت النيجر الدول الغربية وتعاظم التدافع نحوها بعد خروج فرنسا من أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، ففتحت أرضها وسماءها للوجود العسكري الغربي، ومنه:
- القواعد الفرنسية: تتحدث التقارير عن 3 قواعد فرنسية في النيجر تضم 1500 جندي على الأقل، عدا المواقع اللوجستية التي تُستخدم في التدريب.
- القواعد الأميركية: وأنشئت في 2016 بمنطقتي أغاديس ونيامي وفيها 1100 جندي وخبير.
- مركز لوجستي ألماني يضم قوات عسكرية أيضا.
- قوات إيطالية وكندية تشترك في تدريب القوات الخاصة النيجرية.
- اتفاقية شراكة عسكرية مع الاتحاد الأوروبي في 2022 من أجل دعم النيجر ضد الجماعات المسلحة، أنشئت بموجبها مراكز تدريب "فنر" للجيش النيجري، وتضمنت الاتفاقية إنشاء كتيبة للاتصالات ودعم القيادة.
- استضافت النيجر مناورة "فلينتوك"، وهي تمرين سنوي يجريه حلف (الناتو) وقوات العمليات الخاصة الأميركية في أفريقيا.
ويتضح من خلال هذا الوجود الكبير للقوات الغربية حجم الاهتمام الذي نالته النيجر وما يرغب حلفاؤها في تحقيقه على مستوى المساحة الشاسعة لمنطقة الساحل.
تمتلك سادس أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم.. ما أبرز ثروات #النيجر الطبيعية؟ pic.twitter.com/fxff2KKBR1
— قناة الجزيرة (@AJArabic) August 2, 2023
ثروات النيجر
على اتساع مساحة هذا البلد وقساوة طبيعته، فإنه يزخر بثروات هائلة تدفع الدول إلى التهافت نحوها، خاصة أن النيجر تملك معادن إستراتيجية لا تسمح فرنسا وحلفاؤها بأن تقع في أيدي منافسين دوليين أو محتملين.
فلدى النيجر كميات مهمة من اليورانيوم، وكان من المخطط أن تكون ثاني منتج له في العالم في 2014، كما يوجد الفحم وخام الحديد والقصدير والفوسفات والجبس والملح والنفط، وكثير من العناصر ولكن بكميات محدودة.
بوابة الهجرات
تُعتبر جغرافيا النيجر الواسعة عاملا مساعدا للمهاجرين وخاصة في سهولة الحركة لخلوها من السكان. مع وجود شبكات بارعة في معرفة المسالك والدروب الصحراوية تمتهن التهريب، فضلا عن كون المنطقة معبرا تاريخيا للبشر منذ أقدم العصور.
في 2016 وحدها كشفت وكالة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 333 ألف مهاجر عبروا شمال النيجر إلى ليبيا والجزائر، وهي إحدى المشكلات التي تؤرق المجتمع الدولي وتشدد على الشراكة فيها مع النيجر بحثا عن الحلول الممكنة.
انقلاب النيجر وتغيّر الموازين
بعد الانقلاب العسكري في النيجر، يقف الفاعلون أمام خشية خروج البلاد من السيطرة، فمنظمة دول غرب أفريقيا (إيكواس) منقسمة أمام هذا المشهد وليس بمقدورها القيام بتدخل عسكري كامل، ففي هذه الحالة ستندلع حرب إقليمية بلا شك، خاصة في ظل استعداد مالي وبوركينا فاسو للتدخل عسكريا لصالح النيجر في مواجهة إيكواس، ورفض الجزائر وتشاد أي تدخل عسكري.
وبينما يقف الاتحاد الأفريقي عاجزا لا يملك غير عقوبة تجميد العضوية، تؤكد فرنسا دعمها لتدخل إيكواس، وتبحث الولايات المتحدة بين هذا وذاك عن حلول ممكنة تبقي على النيجر في نطاق حلفائها دون تركها لخصومها الذين يبحثون عن ثغرة للدخول وتغيير الموازين.
في ظل تكاثر الحركات المسلحة في منطقة الساحل وتنامي صراع النفوذ، ومع الخشية من سقوط الأنظمة الهشة في المنطقة بيد روسيا تباعا، ستكون فرنسا أكبر الخاسرين دوليا، وستكسب المنطقة مزيدا من الفوضى ما لم تنهض بتغيير قواعد اللعب والممارسات السياسية وتخرج من الهيمنة الأجنبية.