الصحافة في غزة.. حين يخشى الصحفي أن يكون موته جزءا من تقريره
رنا الصباغ- محررة صحفية في مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود
تحبس المراسلة المستقلة وفاء أبو حجاج (40 عاما) أنفاسها لبضع لحظات في كل مرة تصل فيها سيارة إسعاف إلى مستشفى شهداء الأقصى، المرفق الطبي الوحيد في الجزء الأوسط من قطاع غزة.
وتتساءل: هل سيكون أحد أحبتها داخل السيارة هذه المرة؟
تتنفس الصعداء عندما تجد أن سيارة الإسعاف لا تحوي أحد أفراد أسرتها أو شخصا قريبا من قلبها، لكنها راحة قصيرة الأجل، فشبح الموت يلاحقها كل لحظة.
وتقول في مقابلة مع مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود "OCCRP" "إن مشهد جثث الأطفال القتلى ممن تصل المستشفى مروع، حتى الحجارة تبكي عليهم".
وأضافت أبو حجاج "أن حالتنا النفسية سيئة جدا وأعصابنا تعبانة، ولا نستطيع تحمل شيء، نعيش في توتر وخوف كل الوقت" ونتمنى أن تمضي كل ليلة على خير، دون أن نسمع خبرا سيئا، "نحن قلقون وخائفون دائما".
ترسل أبو حجاج تقارير إعلامية عن الحرب في غزة لموقع "فلسطينيات" الإعلامي في الضفة الغربية ومنصة تركية في الخارج.
وقد بدأت بتغطية تداعيات العدوان العسكري من مستشفى الشفاء، وهو أكبر مجمع علاجي في القطاع عندما انطلقت الحملة. ثم نزحت مع أهلها من شمال القطاع إلى وسطه بعد أن تعاظم الخطر الذي انتهى بقيام القوات الإسرائيلية باقتحام المشفى بحجة أن حركة حماس حفرت أنفاقا أسفله، وهو ما تنفيه الحركة المقاومة.
ومعظم نشاط الصحفية أبو حجاج يتركز على توثيق حالات الجرحى والوفيات التي تصل المستشفى، ومقابلة سائقي سيارات الإسعاف لمعرفة آخر مستجدات الدمار الشامل ورقعة القتال الحالي بناء على ما شاهدوه أثناء عملهم في مناطق القصف.
وتم تحطيم جهازها الحاسوب المحمول وهاتفها النقال الحديث الذي كانت تستخدمه لتصوير من تقابلهم عندما تدمر منزل العائلة.
والآن عادت لاستخدام هاتف قديم عثرت عليه، لكنه لا يوفر خاصية التقاط صور عالية الجودة كما كانت تعمل سابقا، وأصبحت تستعين بمصور يرافقها.
تسأل أبو حجاج خلال المحادثة إذا كنت أعرف جهة "قادرة على تقديم بعض المساعدة للصحفيين لاستبدال الكاميرات وأجهزة الحاسوب المحمولة والهواتف الذكية التي تم تدميرها" في القصف.
وتضيف أن فكرة توفير جلسات علاج نفسي للصحفيين للتعامل مع أثر الصدمات حسبما حاولت منظمة دولية أن تقوم به ليس مجدي الآن "بعد ما تنتهي الحرب، ونطلع منها إن شاء الله سالمين سينفع علاج اضطراب ما بعد الصدمات".
معاناة لا مثيل لها
يعيش الآن مئات النساء والأطفال، الذين دمرت منازلهم، في المستشفى، ويتقاسمون 3 مراحيض، وتقول "إن على الواحد أن يصطف لمدة 20-30 دقيقة، إن لم يكن أكثر كل مرة لاستخدام أحد هذه المراحيض، وإذا كان هناك أطفال تطول فترة الانتظار".
وتتابع أنها تستحم فقط كلما زارت منزل أختها في مخيم المغازي، حيث لجأت عائلتها، إذ تستقل عربة يجرها حمار أو حصان للوصول إليهم، لأن التنقل بالسيارات بات مرتفع الثمن بسبب شح في المحروقات.
تتقاسم الصحفية خيمة صغيرة أقيمت داخل حرم المستشفى مع 5 زميلات، وينمن على 3 بطانيات، ويغطون أجسادهم بـ3 أغطية تقيهم بعض الشيء من برد ليالي غزة.
لكنها تقول إن وضعها أفضل بقليل من عشرات الآلاف الذين تهجروا من بيوتهم، الذين يفترشون الأرض في العراء بدون بطانية أو سقف مصنوع من أكياس البلاستيك.
وتوضح أن "الخيمة التي ننام فيها صغيرة جدا، الحمد لله أن زميلاتنا الأخريات يعدن إلى المنزل كل يوم للنوم. بخلاف ذلك، سيكون من المستحيل أخذ قسط من الراحة".
وتتابع قائلة "في كل ليلة قبل أن نذهب إلى النوم، نصلي من أجل عائلتنا وأحبائنا لكي يروا طلوع الشمس صباح اليوم التالي".
هطلت أمطار كثيفة، وأغرقت خيم النازحين بما فيها الخيمة التي تؤويها، وأصيبت بالرشح وتحول الوضع السيء أصلا في المستشفى إلى "حالة يرثى لها".
فقدت أبو حجاج 8 كيلوغرامات من وزنها منذ اندلاع الحرب، حيث تتناول وجبة واحدة في اليوم إذا كانت محظوظة، فلقد تضاعفت أسعار المواد الغذائية بسبب النقص في المخزون وشح عمليات النقل؛ بسبب عدم توفر المحروقات.
قامت منظمة بالتبرع بالفوط لتأمين نظافتهم الشخصية، لكن الفوط شحيحة في الجنوب، في وقت تحاول بعض النساء الحصول على حبوب تأخير الدورة الشهرية.
صحفيون تحت القصف
تقدر نقابة الصحفيين الفلسطينيين أن هناك حوالي 1400 صحفي يغطون الأخبار من غزة، منهم 1200 منتسب للنقابة في غزة من أصل 3200 في عموم البلاد.
وتقول إن عدد الصحفيين المستقلين في غزة والضفة 150، بينما هناك 150 صحفيا مقربا من حركة حماس.
منعت إسرائيل المراسلين الأجانب من الدخول عبر معبر إيريز منذ اندلاع المعارك والقليلة منهم ممن دخل لا يسمح له إلا برفقة القوات الإسرائيلية، مما يعني أن أمر تغطية الحرب ملقى على كاهل غالبية الصحفيين الفلسطينيين ممن شردوا وأسرهم بعد تدمير منازلهم.
ومثل أي شخص آخر من بين 2.3 مليون نسمة محشورين في القطاع الصغير المحاصر يكافح الصحفيون للعثور على المياه العذبة والطعام ومكان للنوم ومرحاض ونقاط كهرباء لشحن أجهزة الحاسوب المحمولة والهواتف وحتى أبسط وسائل النقل. وهم مهددون بالمجاعة وانتقال الأمراض حالهم حال غالبية السكان.
ومع ذلك، فإنهم يغطون الحرب المحتدمة بحد أدنى من سترات الأمان أو الشواحن أو شرائح المحمول.
وتقول منظمات غير حكومية إن إسرائيل تحظر دخول جميع معدات السلامة إلى غزة وبخاصة السترات الواقية والكمامات بحجة أنها قد تستعمل لأغراض أخرى.
وبحلول 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري أكدت لجنة حماية الصحفيين مقتل 63 صحفيا وإعلاميا منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وتقول المنظمة إن ذلك الشهر كان الأكثر دموية على الإطلاق للعاملين في مجال الإعلام منذ أن بدأت في التوثيق في عام 1992.
الصحفي جزء من قصته
غالبا ما يطلب المحررون من المراسلين ألا يصبحوا جزءا من القصة التي يغطونها.
لكن ذلك صعب في غزة حيث يعيشون الحياة والموت والجوع والمرض والتشرد حال أولئك الذين جاؤوا لرواية قصصهم.
يشتكي بعض الصحفيين المستقلين أن زملاءهم المسجلين في نقابة الصحفيين الفلسطينيين يحصلون على بعض الدعم بخلافهم، لكن رئيس لجنة سلامة الصحفيين في النقابة منتصر حمدان يخالفهم الرأي.
وقال إن الحرب العسكرية التي تشنها إسرائيل على غزة والضفة من 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أسهمت في إزالة الحواجز بين مجموع مكونات القطاع الإعلامي الفلسطيني الذي عاش تأثيرات الانقسام السياسي بين حركتي فتح وحماس طيلة 16 عاما.
وأضاف حمدان أنه أمام هذا الواقع الصعب ترفض نقابة الصحفيين الفلسطينيين محاولة إسرائيل وقادتها "التفريق بين الصحفيين والتمييز بينهم من حيث الانتماء السياسي والحزبي، وتؤكد أنها تقدم خدماتها لجميع الصحفيين دون تمييز أو تفريق كونها تعتبر نفسها أنها المظلة الجامعة لجميع الصحفيين الفلسطينيين، سواء كانوا منتسبين أو غير منتسبين لعضوية النقابة".
وتحتاج النقابة بشكل سريع لملابس وجاكيتات شتوية وخود ومعدات حماية وخيام للصحفيين وعائلاتهم وطعام ومياه ومعدات لوجستية وشواحن للأجهزة النقالة مع ضمانة إدخالها لغزة بعد أن قصفت إسرائيل محطة الكهرباء والمياه وشبكة الكهرباء.
لا خيار
لكن المراسلين الفلسطينيين في غزة ليس لديهم خيار، وإذا كان الموت هي الطريقة التي ستنتهي بها حياتهم، فإن أكبر أمنية لديهم أن يكون ذلك سريعا وفوريا.
يقول محمد أبو شحمة، الذي يعمل مراسلا حرا لصالح قناة الجزيرة من داخل خيمة مؤقتة صغيرة أقامها بالقرب من معبر رفح الحدودي مع مصر أنه يتوقع الموت في كل لحظة، وبات يشكك بالثمن الباهظ الذي يدفعه الصحفيون لخدمة الصالح العام.
وقال لي "كل ما يشل تفكيري هو أطفالي وماذا سيحدث لهم؟ هل سيموتون؟ هل سيهجرون؟ ماذا سيكون مصيرهم؟".
يعمل من داخل مستشفى ناصر، ويتشارك مع زميل آخر مكتبا طوله أقل من متر بلا مقعد. ويحاول سريعا أن يستغل وجود الكهرباء في المستشفى لشحن هاتفه وجهاز اللاب توب الخاص فيه. "ولا يحالفني الحظ دائما في إكمال العمل".
في الأسابيع الثمانية الأولى من الحرب، نقل زوجته وأطفاله الخمسة ووالدته المسنة 4 مرات بعد تدمير منزله تدميرا تاما بغارات جوية.
ويقول إنه من المستحيل العثور على أي مأوى آمن في الجيب المكتظ بالسكان، وقد تعافت زوجته وابنته من الإصابات التي لحقت بهما في انفجار مؤخرا طال غرفة كانوا يقيمون بها.
يقول أبو شحمة، وهو صحفي استقصائي، إن أصعب ما مر عليه استشهاد شقيقته وعائلتها وابنة أخيه وبنات عمومته. والأصعب أنني "لم أجد وقتا للحزن عليهم بسبب الحرب المدمرة وبحثي المستمر عن لقمة عيش، فلا يوجد طعام لنشتريه. إذا لم نمت بسبب صاروخ، فسوف نموت من الجوع".
زميل آخر لديه 7 أطفال أجهش بالبكاء من شدة اليأس عندما كلمته مساء الأحد للاطمئنان عليه، سألني "هل تعرفين أي جهة قادرة أن تزودني بمعلبات غذائية لأطعم أطفالي، صدقيني آخر مرة أكلنا فيها كانت قبل 3 أيام. حياتنا لم يعد لها معنى. لقد فقدت الأمل في هذه الحياة".
ومع تشريد ما يقارب من 85% من سكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة وعدم قدرتهم على الوصول إلى أي مساعدات، تقول الأمم المتحدة إن المجتمع هناك "على شفا الانهيار التام" وأن قدرتها على حماية الناس "تتقلص بسرعة".