إلى جانب ميادين القتال.. أوكرانيا في مواجهة جبهات أخرى

قلة إمدادات الغاز وتهديد منشآت الطاقة يهدد الأوكرانيين ببرد قارص هذا الشتاء
قلة إمدادات الغاز وتهديد منشآت الطاقة يبشر الأوكرانيين بشتاء قارس (الجزيرة)

 كييف- حققت القوات الأوكرانية تقدما كبيرا على جبهات القتال في منطقتي خاركيف شرقا وخيرسون جنوبا، سيطرت بموجبه نحو 9 آلاف كيلومتر مربع، بحسب الرئيس فولوديمير زيلينسكي، وتستعد كييف لخوض معارك جديدة، بعد المنعطف الذي شكلته نية روسيا ضم 4 مناطق أوكرانية إلى أراضيها، وإعلان التعبئة لهذا الغرض.

لكن أوكرانيا ستكون مضطرة لخوض حروب جديدة أخرى، على جبهات لا تقل أهمية وصعوبة، تشمل مجالات الطاقة، والاقتصاد، واستمرار الدعم الغربي، و"التعبئة" إن اقتضت الحاجة، وغيرها.

رئيس مؤسسة _الخيارات الأوكرانية_ للدراسات الاستراتيجية - أوليكسي كوشيل
أوليكسي كوشيل: الاستخبارات الأوكرانية تتوقع أن يكون الخريف فترة حاسمة في الحرب (الجزيرة)

برد الشتاء

ولعل أبرز ما يشغل الأوكرانيين جميعا سؤال حول كيف سيكون عليه حال موسم التدفئة في بريد الخريف والشتاء القادمين.

الإجابة هنا تأتي صريحة من المسؤولين بين الحين والآخر، بأن موسم التدفئة المقبل (في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2022 وأبريل/نيسان 2023) سيكون الأصعب في تاريخ البلاد.

بل دعت إدارة العاصمة -على سبيل المثال- السكان إلى "نسيان" درجات الحرارة فوق 20 درجة مئوية في البيوت، ملمحة إلى أنها ستتراوح بين 17 و18 درجة مئوية فقط، أي بتراجع يصل إلى نحو 4 درجات عن المعدل الطبيعي السابق.

حول هذا، يقول أوليكسي كوشيل، رئيس مؤسسة "الخيارات الأوكرانية" للدراسات الإستراتيجية، في حديث مع الجزيرة نت "الاستخبارات الأوكرانية تتوقع أن يكون الخريف فترة حاسمة في الحرب، وإذا فشل الكرملين في تحقيق النتائج التي يريدها في ساحة المعركة، فهناك خطر من أن يبدأ في نشر الخراب، تاركا الأوكرانيين في منازل باردة" في إشارة إلى احتمال قصف المنشآت المعنية بإمدادات التدفئة والماء الساخن.

انقطاع الكهرباء

الحديث عن التدفئة يقود إلى البديل الرئيسي المتمثل بالكهرباء، فإمدادات أوكرانيا هي الأخرى مهددة بفعل عمليات القصف، والضغط الكبير المتوقع الذي قد تتعرض له شبكاتها.

تشرح هذه المخاطر الخبيرة في مجال السلامة النووية بوزارة الطاقة الأوكرانية، أولغا كوشارنا، فتقول للجزيرة نت "4 محطات نووية تزود أوكرانيا بنحو 70% من حاجتها للكهرباء، والاعتماد في النسبة الباقية على المحطات الهيدروليكية والحرارية وغيرها".

وتضيف "لدينا الآن ما يكفي ويزيد من الكهرباء، بما يمكن من بيعه لأوروبا، خاصة وأن كبريات المصانع توقفت تماما. لكننا قد نكون في وضع صعب قريبا، لأن روسيا تعمل على تهديد المنشآت النووية حتى إيقافها، كما حدث في محطة زاباروجيا التي تزود -وحدها- البلاد بنحو 25% من حاجتها للكهرباء".

وتابعت "خسرنا بسبب الحرب محطة سلافيانسك في منطقة دونيتسك، وقصفت محطة كريفي ري، والتهديد بخسارة منشآت أخرى حاضر بقوة. فإذا ما انتقل السكان إلى استخدام الكهرباء لغرض التدفئة، فإننا سنكون أمام عجز، وانقطاعات منتظمة للكهرباء في عدة مناطق، وفق أفضل تقدير".

معظم الأسر الأوكرانية في المناطق الساخنة أو المهددة تفرقت بسبب النزوح أو اللجوء إلى دول الجوار
معظم الأسر الأوكرانية بالمناطق المهددة بالحرب تفرقت بسبب النزوح أو اللجوء لدول الجوار (الجزيرة)

إمدادات الغاز

ولا يبدو خيار الاعتماد على إمدادات الغاز مخرجا مريحا للأوكرانيين، لاسيما وأن أسعاره ارتفعت عالميا، والاعتماد الآن يتم على وارداته من أوروبا التي تخشى قلته، بعد توقف المصادر البيلاروسية والروسية.

يقول هليب فيشلينسكي، رئيس مركز "الإستراتيجية الاقتصادية" قبل الحرب "كنا نستهلك نحو 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، منها 20 من مصادر محلية، والعشرة المتبقية مستوردة" مضيفا أن الحكومة تريد رفع الاحتياطيات المخزنة قبل الشتاء إلى 19 مليار متر مكعب، لكن هذا صعب نظرا لارتفاع الأسعار أمام العجز المالي، فأوكرانيا تحتاج إلى 3 مليارات دولار لشراء مليار متر مكعب، لذلك سيكون هناك نقص، والبلاد لن تستطيع تخزين أكثر من 15 مليار متر مكعب".

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الغاز يعتبر شريان حياة رئيسي للأوكرانيين، في مجال الصناعة المتعثرة والتدفئة، ووسائل النقل، إضافة إلى الاستخدام المنزلي.

والحديث عن الإمدادات بالغاز وغيره من أنواع الوقود يقود إلى مخاوف من تجدد القصف على جبهات "البنى التحتية" وغيرها من اللوجستيات الخاصة بهذا القطاع، من محطات وخزانات وطرق ووسائل إمداد.

قصف وإغراق

ومن أعظم المخاوف أن يطال القصف بنى تحتية "حساسة" على كبريات الأنهر، ومنها محطات إنتاج الطاقة، والسدود المستخدمة لهذا الغرض، بما يؤدي إلى إغراق مساحات سكنية واسعة.

وقد برزت هذه المخاوف بعد أن غطت المياه مساحات واسعة من عدة قرى جراء استهداف جسر تابع لمحطة هيدروليكية في مدينة كريفي ري بمنطقة دنيبروبتروفسك وسط البلاد قبل أيام، ثم على مكان لا يبعد كثيرا عن سد ضخم في منطقة ميكولايف، يستخدم لذات الغرض، ولتبريد مفاعلات محطة "الجنوب" النووية.

حتى أن وزارة الطاقة وسلطات كييف المحلية بثت مؤخرا رسائل طمأنة لسكان العاصمة، بعد حديث خبراء عن إمكانية أن تُغرق مياه نهر "دنيبر" 5 أحياء بالمدينة، إذا استهدف أكبر سد في الأجزاء الشمالية، الذي يشكل خلفه ما يسمى "بحر كييف".

الخبيرة في مجال السلامة النووية بوزارة الطاقة الأوكرانية - أولغا كوشارنا
أولغا كوشارنا: خسرنا محطات كهرباء بسبب الحرب وقد نكون في وضع صعب لأن روسيا تستهدف المنشآت النووية (الجزيرة)

تدهور الاقتصاد

ويخشى الأوكرانيون أيضا مزيدا من التدهور الاقتصادي خلال الفترة المقبلة، في ظل تراجع قيمة العملة الوطنية "هريفنيا" أمام الدولار وغيره، وتضخم الأسعار، وخسارة نحو ثلث السكان وظائفهم وأعمالهم، بحسب دراسات.

فخلال 7 شهور من الحرب، قفز سعر صرف الدولار من نحو 27 إلى 42 هريفنيا، أي بنسبة قاربت 65%، وحديث الشارع يدور اليوم حول إمكانية وصوله فعلا إلى 45 أو 50، لاسيما بعد رفع سعر الصرف الرسمي المعتمد في ميزانية الدولة للعام المقبل، من 36.6 إلى 42.

وبعبارة أخرى، أدى ذلك إلى تراجع متوسط الدخل مما يعادل 455 دولارا تقريبا إلى نحو 360، أمام تضخم في الأسعار تجاوزت بعض نسبه 80%، ومن ذلك أسعار الوقود التي قفزت بنسبة قاربت 100%، وسط مخاوف من زيادة حادة أخرى، إذا تراجع الدعم الحكومي الأمر الذي يناقشه البرلمان فعلا.

دميترو بويارشوك، المدير التنفيذي لمؤسسة الدراسات الاجتماعية والاقتصادية (CASE Ukraine) للدراسات، يقول "الحرب دمرت ثلث الاقتصاد الأوكراني، والدول الغربية تساعده على البقاء واقفا، بتقديم نحو 4 مليارات شهريا".

وذكر أن البنك الوطني يطبع كميات كبيرة من الهريفنيا، وهذا يؤدي إلى تراجع قيمة العملة، وزيادة نسب التضخم، خاصة فيما يتعلق بالمواد المستوردة. ويضيف "الحكومة والبرلمان يتحدثان الآن أيضا عن فكرة لتوفير السيولة، لا تحظى بشعبية، مثل فرض ضريبة بنسبة 10% على شراء العملة لتنفيذ معاملات الاستيراد".

الروابط الاجتماعية

وتبقى جبهة الروابط الاجتماعية مفتوحة أمام الأوكرانيين، وتمزق أوصال ما لا يقل عن 10 ملايين نسمة بين لجوء ونزوح، أي ما يعادل ربع عدد سكان البلاد.

وتصل إلى 90% نسبة من غادروا البلاد من النساء والأطفال، ولا يزال الذكور بين سن 18 و60 عاما ممنوعين من السفر في إطار "حالة الحرب" المعلنة، الأمر الذي يشكل عقدة اجتماعية صعبة الحل، وبدأ يرفع نسب الإقبال على الطلاق، بحسب مكاتب محاماة.

Ukrainian service members observe an area at a position near a frontline in Zaporizhzhia region
مجندون أوكرانيون بالقرب من خط المواجهة في منطقة زاباروجيا (رويترز)

التعبئة العسكرية

ويزيد الطين بلة في الإطار الاجتماعي أيضا تلويح مسؤولين بإمكانية أن تقدم البلاد (مضطرة) على خطوة "التعبئة" بعد أن بدأتها روسيا.

حول هذا تحدث صراحة مستشار الرئاسة، أوليكسي أريتوفيتش، قبل يومين، عندما قال "أوكرانيا تستطيع تعبئة 5.5 ملايين شخص في قواتها عند الحاجة، ومن بينهم الطلاب المعفيون من الأمر".

كل ما سبق، قد يضع سلطات البلاد أمام جبهات غضب وانتقادات في مجتمع بيتها الداخلي، الذي -ربما- كانت سمات التماسك والوحدة والتضامن عناوينه الأبرز منذ بداية الحرب، وهذا من بين أهداف روسيا، بحسب خبراء كثر.

استمرار الدعم

ويؤرق السلطات ذلك التغيير الحاصل والمنتظر في مشهد الدول الغربية الداعمة لكييف، الأمر الذي كان الرئيس الأوكراني قد لمح إلى أنه "ربما يتراجع، ولن يكون أبديا، ويحتاج إلى عمل وجهد".

من ذلك، بحسب سيرهي سولودكي، النائب الأول لمدير "مركز أوروبا الجديدة" صعود اليمين المتطرف الأقل حماسة لتقديم الدعم، بموجب انتخابات في بعض الدول، وآخرها إيطاليا. وحقيقة أن الحرب الروسية كانت سببا رئيسيا لاستقالة وزراء بحكومة بوريس جونسون، حتى وإن جاءت ليز تراس بعده بذات النفس الداعم لكييف.

ويخشى هذا الخبير أيضا إمكانية أن يتراجع الشأن الأوكراني على سلم الاهتمامات الأميركية بعد انتخابات التجديد النصفي المقرر إجراؤها في 8 نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وأن يتأخر الدعم العسكري الأميركي الكبير المنتظر في إطار قانون "ليند ليز" (الإعارة والتأجير) فلا يكون كاملا خلال أكتوبر/تشرين الأول المقبل، بل ينفذ ببطء.

 

المصدر : الجزيرة