إزالة عوامات النيل.. نهاية لحكاية الجواسيس ومحو إرث معماري

تاريخ العوامات النيلية يعود إلى نحو 150 عاما (الفرنسية)

أمرت الحكومة المصرية بإزالة العوامات المقامة على ضفاف النيل منذ أواخر القرن الـ19، وارتبطت هذه العوامات في البداية بالجواسيس الأجانب، ومن ثم بمشاهير الفن والغناء.

يوليو/تموز الماضي، شرعت السلطات المصرية في إزالة آخر المنازل العائمة الأنيقة الراسية على طول شاطئ النيل، في منطقة "الكيت كات" بالقاهرة، التي سميت على اسم ملهى ليلي قديم كان يحظى بشعبية كبيرة بين المثقفين المصريين والضباط البريطانيين.

ورغم أن السلطات كانت تقول إن العوامات -التي يقدر عددها بـ33 عوامة- في طريقها للتطوير، فإن هدمها يمحو بقايا تاريخ المدينة التي كانت موطنًا لمشاهير حقبة أخرى.

من جهته، يقول رئيس الإدارة المركزية لحماية نهر النيل، المهندس أيمن نور، إن الهدف من إزالة العوامات النيلية المخالفة هو استعادة المظهر الحضاري لنهر النيل، وتطوير المنطقة، مؤكدا أن العائمات التي يتم إزالتها بدون ترخيص.

150 عاما

يعود تاريخ العوامات النيلية إلى نحو 150 عاما، حسب ما يذكر أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس، الكاتب والمؤرخ طارق منصور، إذ يقول: "بدأت (العوامات) في الظهور وسط الطبقة الأرستقراطية والفنانين كنوع من الوجاهة الاجتماعية، خاصة بين الباشوات وكبار الفنانين، منهم فريد الأطرش الذي امتلك واحدة".

ويضيف أنها تحولت لجزء من تاريخ السينما المصرية، خاصة أن بعض الأفلام تم تصويرها فيها، مثل فيلم "ثرثرة فوق النيل" المأخوذ من رواية باسم نفسه للكاتب نجيب محفوظ، وكانت الدولة في ذلك الوقت ترخص تلك العوامات، وفقا لاشتراطات معينة لا تضر بالنيل.

ويتابع المؤرخ "مع مرور الوقت، أوقفت الدولة تراخيص تلك العوامات، لأنها باتت متآكلة ومتهالكة؛ فهي مصنوعة من الخشب، فضلا عن أن بعضها تحول لأنشطة تجارية بعيدا عن الترخيص الأساسي، بما يخالف القواعد وسلامة مياه النيل".

ويرجح الباحث التاريخي مصطفى شريف أصل ظهور العوامات إلى ارتباط المصريين بالنيل، فبعد أن ارتبط المصريون ببركة الأزبكية التي تحل مكانها حديقة الأزبكية حيث التنزه، ظهرت العوامات في جزيرة الزمالك في بداية القرن الـ20، وعاش فيها المشاهير والأغنياء.

ومن المشاهير الذين امتلكوا عوامات فنانون مثل نجيب الريحاني ومنيرة المهدية، ونجوم آخرون مثل المطرب محمد عبد المطلب، والراقصتين تحية كاريوكا وسامية جمال، وفريد الأطرش.

وكان عدد العوامات النيلية في مصر -التي كان يقصدها رواد الطبقة العليا- يفوق 300، وقد وُجدت ظاهرة العوامات السكنية في دول كثيرة حول العالم، منها هولندا.

الأفلام طرحت العوامات لنقد المجتمع، خاصة الطبقة المثقفة منه (الفرنسية)

توثيق السينما

وخلدت السينما المصرية هذا الإرث المعماري الذي ميز نيل القاهرة، ببنائه الخشبي المزين بديكورات بسيطة تتوافق مع الطبيعة والطقس، فجاء فيلم "ثرثرة فوق النيل" عن رواية نجيب محفوظ، وفيلم "العوامة 70" للمخرج خيري بشارة.

ويبدو أن السينما استعانت بالعوامات لتكون مسرحا لأحداث الأفلام لنقد المجتمع، خاصة الطبقة المثقفة منه.

وتنوعت العوامات ما بين سكنية يعيش فيها الشخص وأخرى للتنزه والسهرات الليلية.

ملاذ للجواسيس

وفي زمن الحرب العالمية الثانية، عاش الجواسيس الألمان في العوامات عندما لم يكونوا يحاولون عبور الصحراء أو إرسال رسائل إلى مشغلي الراديو الذين لم يستمعوا.

وتمكنت أجهزة المخابرات البريطانية من إلقاء القبض في إحدى العوامات على الجاسوسين الألمانيين يوهانس إيبلير وهاينريش ساندستيد -اللذين كانا يعملان في المنطقة ويتخذان من إحدى العوامات مقرا لهما- في 25 يوليو/تموز 1942.

وقد نُشر كثير عن الجواسيس بعد الحرب العالمية الثانية في عدة روايات، مع اختلافات طفيفة، وتردد صداها في الأعمال التاريخية اللاحقة كحقيقة ثابتة.

ورغم الأسرار الكثيرة التي تسربت من جلسات العوامات، فإن المؤكد أن هناك حكايات بلا نهاية شهدت عليها تلك الجدران التي يستعد الجميع لوداعها بعد قرار الإزالة المفاجئ.

المصدر : مواقع إلكترونية