مقتدى الصدر.. إرث عائلي ومواقف وطنية جعلته الأكثر جماهيرية في العراق
لم تكن تحركات الصدر ومواقفه خلال الشهور الأخيرة وليدة اللحظة، بل جاءت امتدادا لنهج خطه لنفسه عقب تغيير النظام السابق في العراق عام 2003
بغداد– أنهت دعوة زعيم التيار الصدري أنصاره للانسحاب من المنطقة الخضراء حربا دامية أوشكت على الاندلاع، حيث انسحبوا بعد ساعات من اشتباكات مسلحة دارت في محيطها راح ضحيتها العشرات.
الحادثة الأخيرة أظهرت قوة ومكانة الصدر واستمراره باعتباره اللاعب الأهم في معادلة الشارع والعملية السياسية بما يمتلكه من جماهير مطيعة وسرايا ملتزمة.
لم تكن تحركات الصدر الأخيرة ومواقفه وليدة اللحظة، بل جاءت امتدادا لنهج خطه لنفسه عقب تغيير النظام السابق في العراق عام 2003.
يدعو مقتدى الصدر إلى "إصلاح" أوضاع العراق من أعلى هرم السلطة إلى أسفله، وإنهاء "الفساد" الذي تعاني منة مؤسسات البلاد، وغالبا ما يعلن الصدر -الذي يتمتع بنفوذ كبير في العراق- عن مواقف مفاجئة يتراجع عنها أحيانا.
لاعب عنيد
لم يكن أحد يتصور أن الصدر -الذي كان المطلوب رقم 1 للأميركيين بعد 2003 حيا أو ميتا- يصبح اليوم هو اللاعب الأساسي في العملية السياسية والمتحكم ببيادقها رغم توجهاته بالوقوف في وجه التدخل الإيراني في المشهد السياسي العراق واستمراره على نهج المقاومة للأميركيين وإخراجهم من البلد.
تمسك الصدر بمطالب إصلاح العملية السياسية ومحاربة الفساد منذ العام 2016، ونظم الاحتجاجات والمظاهرات، وأجبر مسار العملية السياسية على احترام إرادته في كل خطوة لتشكيل الحكومة أو إصدار القرارات.
أما قبل العام 2016 فالصدر كان الخصم العنيد الذي قاوم القوات الأميركية، وخاض معارك شرسة معها، وكذلك واجه مشروع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في تصدر المشهد الشيعي، وخاض كذلك معه معارك أطلق عليها المالكي حينها صولة الفرسان عام 2008.
كل تلك التحولات زادت شعبية الصدر وجعلت جمهوره من التيار الصدري يتمسك به أكثر بعد أن نجح في أن يسيطر على أوراق اللعبة السياسية، وتتصدر كتلته السياسية الانتخابات التي أجريت عامي 2018 و2021، في حين سجلت معظم القوى السياسية تراجعا كبيرا في مقاعدها.
جذور عميقة وظاهرة اجتماعية
التيار الصدري ظاهرة اجتماعية وسياسية، ولا توجد ظاهرة سابقة تشبه ظاهرة أتباع وأنصار الصدريين، حسب بعض المتابعين والباحثين.
هذه الظاهرة تنتهي عند زعيم التيار الصدري الحالي مقتدى الصدر، وتمتد لجذور عميقة ساهمت في تشكيل الدولة العراقية الحديثة، حيث لم تكن هناك فترة في تاريخ العراق الحديث لم يكن لآل الصدر فيها بصمة واضحة المعالم ودور فاعل ومؤثر كما يشير الباحث والناشط الاجتماعي سعيد ياسين.
وقال ياسين إن مطالبات الصدر بالإصلاح والجماهير التي تتبعته ليست بالجديدة على آل الصدر ومسيرتهم، مبينا أن مقتدى هو الوريث لجماهير أبيه المرجع محمد محمد صادق الصدر الذي كان المرجع الوحيد الذي تحدى نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وأقام صلاة الجمعة وقارعه في وقت غادر أغلب مناوئيه البلاد، وهو ما أكسبه جماهيرية كبيرة بين أبناء المذهب الشيعي تحولت عبر مواقف الابن إلى جماهيرية وطنية لا تقتصر على أبناء المذهب وحسب.
وأضاف ياسين أن العائلة كانت على مدى تأسيس الدولة العراقية لاعبا مؤثرا ومساهما بارزا، فمع تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد العام 1920 كان أحد أفراد العائلة الصدرية -وهو محمد الصدر- رئيسا لمجلس الأعيان وبعدها رئيسا للوزراء، ومن بعده جاء المرجع محمد باقر الصدر، وهو فيلسوف ومفكر وثائر ترك أثره داخل العراق والعالم.
كما أن أغلب من قادوا العملية السياسية في العراق بعد 2003 هم تلاميذ ومقلدو الصدريين محمد باقر الصدر وابن عمه محمد محمد صادق الصدر والد مقتدى.
وحتى عربيا، يقول ياسين إن موسى الصدر -وهو من نفس العائلة التي ينتمي لها مقتدى الصدر- كان أحد عناوين السلم الأهلي والاستقرار في لبنان.
ويختم ياسين حديثه بأن جذور ورجالات العائلة الصدرية تركت بصمتها واضحة في العراق عبر جمهور واسع وكبير نجح الزعيم الشاب في تحويله إلى قاعدة شعبية وطنية مؤثرة وفاعلة في تحريك المشهد العراقي سياسيا وشعبيا.
راسم لقواعد اللعبة
لا تقتصر شعبية مقتدى الصدر على إرث عائلته الدينية الممتدة لأكثر من 150 عاما المتفرعة عن أصل الشجرة الصدرية المتفرعة من بيت شرف الدين وجمال الدين أصل العائلة التي تفرع منها آل الصدر كما يقول الباحث في الشأن السياسي محمد نعنع، لكنها اعتمدت على حنكة الزعيم الشاب وقدرته على التحكم بالمشهد السياسي في العراق.
ويقول نعنع إن صورة مقتدى المقاوم للاحتلال الأميركي بعد 2003 والمعارض العنيد والداعي الدائم للإصلاح ومحاربة الفساد ومن ثم الداعي لحكومة الأغلبية بمد جسور وطنية مع الأكراد والسنة بعيدا عن التخندق الطائفي كلها جعلت منه لاعبا سياسيا كبيرا، بل تعدى ذلك إلى كونه "الواضع لقواعد اللعبة في العراق".
وأكد أن السنوات العشر الأخيرة كان فيها الصدر صاحب الثقل الأكبر في اختيار رئيس الحكومة، موضحا أن مشروع الأغلبية ونجاحه في تعطيل الإطار من تشكيل حكومة توافقية زادا قوة الصدر ومكانته في الشارع وأظهرا امتلاكه قوة جماهيرية وشعبية كبيرة، فاستطاع -بحسب نعنع- أن يواجه بمفرده كل قوى الإطار منفردا دون أن تستطيع تجاهله.
لذا، فإن الصدر استطاع أن يكوّن من تياره ظاهرة سياسية واجتماعية بالاعتماد على خلفيته العائلة وتحركاته الشخصية، لتكون تلك الظاهرة غير مسبوقة على صعيد تاريخ العراق الحديث.
ديمقراطية قلقة
بدوره، يقول الصحفي أحمد فاضل إن وضع الديمقراطية المقلق والهش أتاح للصدر بإرثه الديني والسياسي والعقائدي أن يتصدر المشهد، مشيرا إلى أنه في خطواته الأخيرة أظهر حجم الطاعة العمياء لأنصاره وقواعده الشعبية عبر تقديم استقالة 73 نائبا من الكتلة الصدرية دون تردد، ومن ثم الاعتصام أمام البرلمان وفي محيطه، والصلوات الموحدة والمظاهرات المليونية واقتحام المنطقة الخضراء التي بينت أن أنصاره مستعدون لأي طاعة حتى لو كانت مكلفة.
وأشار فاضل إلى أن ظاهرة التيار الصدري وزعيمه أصبحت هي الأبرز على الصعيد الداخلي، فجميع القوى الأخرى لا تمتلك قاعدة شعبية تمكن قائدها من أن يقف منفردا أمام إرادات داخلية وخارجية ويعطل انعقاد الجلسات البرلمانية وتشكيل الحكومة حتى إرضائه وموافقته.
وأضاف فاضل أن الصدر نجح في تصدر المشهد الشيعي سياسيا ومن ثم وطنيا عبر نجاحه في اللعب على وتر نبذ المحاصصة والتدخلات والمقاومة.
الصدر باختصار
مقتدى الصدر -الذي يتزعم التيار الصدري- مولود في الكوفة بمدينة النجف جنوب بغداد في 1973 لأسرة محافظة، وهو الابن الرابع للزعيم الشيعي محمد محمد الصادق الصدر الذي اغتيل عام 1999 في عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
بدأت مسيرته مع العملية السياسية في العراق بمعارك ضارية مع القوات الأميركية التي اجتاحت البلاد في 2003، وصولا إلى نزاع حاد مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي حكم البلاد بين العامين 2006 و2014.
حل بعد ذلك "جيش المهدي" المؤلف من آلاف المقاتلين، وكانت تنتمي إليه في بداية تشكيله أغلب الفصائل المسلحة المناوئة له الآن.
وفي بيان مقتضب صدر الاثنين الماضي قال الصدر "إنني الآن أعلن الاعتزال النهائي"، كما أعلن إغلاق كافة المؤسسات المرتبطة بالتيار الصدري "باستثناء المرقد الشريف (لوالده)، والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر"، لكنه سرعان ما عاد للتدخل عبر بيانات ينقلها عنه ما يعرف بوزيره محمد صالح العراقي.