بعد انسحاب آخر جندي فرنسي.. كيف يبدو المشهد في مالي؟ وهل تستطيع فاغنر ملء الفراغ؟

خرجت فرنسا من مالي بعد استفحال الجماعات المسلحة، وتكاثر أعدادها، واتساع رقعتها الجغرافية، ونمو قدراتها العسكرية وإمداداتها اللوجستية؛ مستفيدة من تمددها في عدد كبير من دول الساحل وصولا إلى خليج غينيا.

Last French soldiers from Operation Barkhane leave Mali
القوات الفرنسية انسحبت من مالي لتعيد تموضعها في النيجر وبدرجة أقل في تشاد (رويترز)

تبدو الخريطة السياسية والإستراتيجية في الساحل الأفريقي متحركة تتبدل فيها الأجندة، وتتحول ضمنها المشاريع المتسابقة لتشكيل واقع جديد ربما يغير خرائط النفوذ التاريخية لمصلحة لاعبين جدد، بالاشتراك مع عوامل تغيير داخلي تفرضه التطورات الطبيعية للنخب الأفريقية، فكيف تتشكل الخرائط الجديدة؟ وما مصير النفوذ الفرنسي؟ ومن سيحلّ بديلا عنه؟ وهل سيتمكن المرتزقة الروس من النجاح في ما فشلت فيه فرنسا وحلفاؤها من الدول الأوروبية؟

كيف عادت فرنسا إلى مالي ولماذا غادرت؟

مع تفاقم التمرد المسلح في شمال مالي في 2012 وجدت فرنسا غطاء قانونيا لتدخلها الجديد عبر طلب الحكومة المالية مساعدتها في مواجهة المسلحين الإسلاميين، إضافة إلى استغلالها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2085 الذي يسمح بإنشاء قوة دولية لدعم مالي في حربها لاستعادة الشمال الذي سيطرت عليه المليشيات الجهادية، لكنها في واقع الأمر استبطنت إستراتيجيتها الحقيقية لحماية مصالحها في المنطقة وتعزيز نفوذها الاستعماري القديم، فضلا عن اهتمامها الخاص بالثروات التي تتمتع بها المنطقة من ذهب ونفط وغاز.

أثبت التعاطي الفرنسي مع الأوضاع في مالي نتائج عكسية تماما على غير ما خططت له باريس ورغبت به؛ ذلك لأنها ارتكبت مجموعة من الأخطاء الإستراتيجية في التعامل الميداني أسهمت في تحولات المشهد الكلي، ابتداء من التشخيص للمشكلات الداخلية لمالي، والحلول التي طرحتها، مرورا برؤيتها لحل الأزمة الداخلية للحكم في مالي، وانتهاء بالتعامل المنفرد مع الأوضاع في منطقة تشكل الهشاشة أبرز معالمها.

إعلان

ما طبيعة التوازنات التي أخرجت فرنسا من مالي؟

فجّرت الانتخابات الرئاسية في مالي عام 2018 أزمة سياسية عميقة أدت إلى بروز توازنات في ميزان القوى الداخلية، كان طرفاها النظام السياسي برئاسة بوبكر كيتا المدعوم من فرنسا وقوى المعارضة المدعومة شعبيا ومدنيا، تعمقت الهوّة بينهما بسبب عوامل عديدة أهمها هجمات الجماعات الإسلامية المسلحة والتباينات في التعاطي معها، فضلا عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي فاقمته جائحة كورونا على نحو أدى إلى حتمية التغيير، وتصاعد الموقف بتشكل حركة "5 يونيو" المطالبة بإسقاط النظام وإجلاء القوات الفرنسية.

حدث انقلابان في مالي: الأول على الرئيس بوبكر كيتا، والثاني على الحكومة الانتقالية التي يشكل الشق المدني فيها حلفاء فرنسا، وكان الانقلاب الثاني القشة التي قصمت عرى ما تبقى من نفوذ فرنسا في مالي، بإبعاد النخب الحليفة لفرنسا، وقد عضد هذا بروز توازنات قوى دولية جديدة مثل روسيا والصين التي لديها القدرة على توفير بدائل عسكرية واقتصادية وسياسية تشكل عامل تشجيع وجذب للنخب الجديدة.

كيف يبدو المشهد في مالي بعد الانسحاب الفرنسي؟

لا تتوفر إحصائيات دقيقة لأعداد الجنود الروس العاملين في مالي، ولكن التقارير تتفق على أن قوات فاغنر الروسية تنتشر في المناطق التي تغادرها القوات الفرنسية، وستكون موسكو أكثر الجهات الفاعلة استعدادا لملء الفراغ الذي تركته القوات الفرنسية في مالي.

والملاحظ بوضوح تطور العلاقات العسكرية، وزيادة المساعدات العسكرية واللوجستية لمالي، ففي أقل من 6 أشهر تلقت مالي مساعدات عسكرية متنوعة، راوحت بين رادارات مراقبة حديثة وطائرات هليكوبتر وأسلحة أخرى، وفي أغسطس/آب الحالي تلقت مالي 6 طائرات حربية ومزيدا من المدربين الروس من المتقاعدين والمتعاقدين.

Last French soldiers from Operation Barkhane leave Mali
القوات الفرنسية انتشرت في مالي عام 2013 لمواجهة جماعات إسلامية مسلحة في شمال البلاد (رويترز)

ما الذي يمكن أن تقدمه قوات فاغنر أكثر مما فعلته فرنسا؟

خرجت فرنسا من مالي بعد استفحال الجماعات المسلحة، وتكاثر أعدادها، واتساع رقعتها الجغرافية، ونمو قدراتها العسكرية وإمداداتها اللوجستية، مستفيدة من تمددها في عدد كبير من دول الساحل وصولا إلى خليج غينيا، فمالي أصبحت جزءا من المعركة وليست الوحيدة.

إعلان

وقوات فاغنر محدودة العدد، لكنها ستستخدم البدائل المتاحة، بتجنيد مزيد من المرتزقة، إضافة إلى مزيد من تسليح الجيش المالي، إذ إن اهتمام فاغنر لا يقتصر على مساعدة الجيش المالي بقدر التركيز على مناطق التعدين حيث ينتج المعدنون الماليون نحو 50 طن من الذهب سنويا، وهو ما تهتم به روسيا الدولة من وراء إرسال التعزيزات وتقوية العلاقات، ومن ثم يمكننا القول إن فاغنر منفردة لن تنجح في ما فشلت فيه قوات من أكثر من 20 دولة.

لماذا توسعت سيطرة الجهاديين مع انسحاب فرنسا من مالي؟

تصاعدت العمليات العسكرية لتنظيم القاعدة في المدة الأخيرة في مالي عبر هجمات منسقة وتوغل في وسط البلاد باستهداف قلب السلطة ومعاقلها، فجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بالقاعدة وسّعت نفوذها فاستهدفت في عمليات جريئة قواعد الجيش في كاتي حيث مقر القيادة الذي كان يوجد فيه أسيمي غويتا قائد الانقلاب، وقد عدّ الخبراء العسكريون ذلك تطورا إستراتيجيا في المواجهة ونقلة نوعية.

ففي الليلة ذاتها التي هاجمت الجماعة فيها قاعدة كاتي نُفّذت 6 هجمات منسقة في وسط البلاد وجنوبها في وقت واحد، وسمح هذا بتمدد الجماعة في منطقة شاسعة تمتد على طول الحدود بين مالي وبوركينا فاسو، وهو ممر خطير يسمح لها بالتمدد باتجاه ساحل المحيط الأطلسي خصوصا في دولة بنين توغو حيث يلاحظ ازياد الهجمات.

Supporters participate in a demonstration called by Yerewolo Debout sur les remparts, an anti-France political movement, in Bamako
مظاهرة في باماكو تطالب بتسريع انسحاب القوات الفرنسية من مالي (رويترز)

كيف تطورت وسائل المواجهة لدى الجماعات الجهادية في مالي؟

ما لا شك فيه أن توسع رقعة الحركة في عدد من الدول وسهولة تواصل الحركات الجهادية في الأقطار المختلفة أتاحا لها تطوير قدراتها العسكرية كمًّا ونوعا، فمن الناحية الجغرافية وصلت عملياتها إلى خليج غينيا الذي يعدّ من أكبر مناطق التهريب العالمية.

إعلان

ومن الناحية العملياتية، فقد نفذت الجماعات المسلحة هجمات قتل فيها عشرات من الجنود الماليين، واستخدمت فيها الجماعات، وفق تقارير، أسلحة نوعية تمثلت في الطائرات من دون طيار والمدفعيات المتطورة، تمكنت فيها من استهداف الجيش وقوات فاغنر، فقد استطاعت قتل 4 من قوات فاغنر بالقرب من منطقة باندياجارا في مالي، وقبل ذلك قتل المسلحون 42 من القوات المالية، مستفيدين من الفراغ الذي تركته القوات الفرنسية والأوروبية بشكل عام.

إلى أين تتجه الأوضاع في مالي بعد الانسحاب الفرنسي؟

انسحبت فرنسا من مالي لتعيد تموضعها في النيجر، وربما بدرجة أقل في تشاد، وهي الدول التي بدأت تتشكل فيها حركات مدنية تطالب بخروج فرنسا النهائي منها، وتركت فراغا كبيرا تصعب معالجته في وقت وجيز، ولكن سرعان ما بدأت مالي اتهام فرنسا بدعم الجهاديين، وطلبت اجتماعا طارئا لمجلس الأمن الدولي، لبحث الانتهاكات الفرنسية للأجواء في مالي لجمع معلومات لمصلحة الجماعات الجهادية في منطقة الساحل.

ويبقى السؤال: هل ستتمكن مالي من حسم الصراع مع الحركات الجهادية عسكريا بدعم من قوات فاغنر الروسية أم إن الواقع سيتغير لمصلحتها، بسبب ضعف الجيش المالي، ودخول عوامل دعم خارجي يهدف لمزيد من زعزعة المنطقة؟

المصدر : الجزيرة

إعلان