في ظل ضعف ميزانيات الصحة.. هكذا تنقذ تبرعات المصريين حياة آلاف المرضى

القاهرة – لم تكن الطفلة رقية -التي تعاني من مرض "ضمور العضلات الشوكي" النادر- سوى اسم في قائمة طويلة لمئات المصابين في مصر بذات المرض ومئات الآلاف من المصابين بأمراض أخرى نادرة وخطيرة ينتظرون الحصول على علاج يتجاوز إمكانياتهم.
والأسبوع الماضي، تجدد الأمل لدى أسر آلاف المرضى في إمكانية إنقاذ أبنائها بعدما شهدت مصر ما تشبه الملحمة الشعبية، حيث جمع المصريون خلال أيام معدودة أكثر من 45 مليون جنيه (الدولار يساوي 18.79 جنيها) لإنقاذ حياة الطفلة رقية التي تحتاج حقنة العلاج الجيني "زولجينزما" بتكلفة تبلغ أكثر من مليوني دولار.
اقرأ أيضا
list of 3 itemsوفي ظل ضعف المخصصات الرسمية للصحة في البلاد لا يجد المصريون سبيلا إلا إطلاق حملات لجمع التبرعات لإنقاذ الحالات الحرجة من المصابين بالأمراض النادرة، مثل ضمور العضلات، أو الأمراض الخطيرة كالسرطان والقلب.
بارقة أمل
عقب نجاح حملة جمع التبرعات لإنقاذ رقية بدأت حملة أخرى لإنقاذ الشقيقتين علياء وفريدة محمد حسين اللتين تعانيان من المرض نفسه، ويكلف توفير العلاج لهما نحو 80 مليون جنيه مصري.
وتحتاج الطفلتان إلى الحصول على العلاج النادر قبل بلوغهما سن الثانية، وهو ما يعني أن أمامهما أقل من 3 أشهر فقط لجمع المبلغ المطلوب، وتخشى الأسرة أن تضطر إلى اختيار واحدة من البنتين إذا لم يتم جمع المبلغ المطلوب بالكامل.
وكشفت والدة الطفلتين في تصريحات لصحف محلية أنها لجأت إلى تبرعات المصريين بعدما فشلت في علاج ابنتيها على نفقة الدولة ضمن "المبادرة الرئاسية" لعلاج مرضى ضمور العضلات التي أطلقت العام الماضي، لأنها لا توفر العلاج الجيني إلا للأطفال الذين لم تتجاوز أعمارهم 6 أشهر بسبب التكلفة الباهظة.
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أعلن في يونيو/حزيران 2021 أن الدولة ستتحمل تكاليف علاج مرض الضمور العضلي للأطفال حديثي الولادة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والتبرعات لصالح صندوق "تحيا مصر".
ومنذ بدء الحملة رسميا في يوليو/تموز 2021 وحتى بداية يونيو/حزيران 2022 حصل 36 طفلا على العلاج الجيني من بين أكثر من 12 ألف حالة تم عرضها على العيادات المخصصة لاستقبال مصابي الضمور العضلي من الأطفال، وفق كالة أنباء الشرق الأوسط (حكومية).
حملة تبرعات ثالثة للطفلة سيلين ورابعة للطفل آدم كشفت عن حجم المعاناة التي تواجهها أسر هؤلاء الأطفال، فيما فتحت ملحمة إنقاذ رقية باب الأمل واسعا أمام إمكانية إنقاذ أطفالهم من المرض النادر الذي يبلغ عدد المصابين به عدة آلاف، وفق مسؤولين وأطباء.
والعام الماضي نجحت حملة مماثلة لإنقاذ الطفل رشيد بعدما حازت حالته على اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي والمشاهير، وتبرع له المصريون بنحو 34 مليون جنيه مصري لبدء العلاج.
ميزانيات هزيلة
تنص المادة 18 من الدستور المصري على أن "لكل مواطن الحق في الصحة والرعاية الصحية الشاملة وفقا لمعايير الجودة، وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي".
لكن الحكومة المصرية لم تلتزم حتى الآن بهذه النسبة الدستورية، ووفق تصريحات المسؤولين المصريين فإن الميزانيات الرسمية المخصصة للصحة غير كافية لتقديم خدمة طبية وعلاجية ملائمة لأكثر من 100 مليون مصري.
وجاء قطاع الصحة في المرتبة الخامسة في أولويات الإنفاق الحكومي في موازنة العام 2022/2021، وبلغ حجم إنفاق الدولة على قطاع الصحة 108.8 مليارات جنيه، وهو مبلغ لا يتجاوز 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي في الموازنة، وهي نصف النسبة التي حددها الدستور.
أما مشروع موازنة 2023/2022 فيشير إلى زيادة حجم الإنفاق الحكومي على قطاع الصحة ليصل إلى 128.1 مليار جنيه، أي أن نصيب المواطن من الإنفاق الصحي في الموازنة الجديدة يبلغ حوالي 1230 جنيها سنويا.
ويعتمد تمويل النظام الصحي في مصر بشكل كبير على الإنفاق الذاتي للمواطنين، إذ تتراوح نسبة المدفوعات المباشرة لهم للإنفاق على النظام الصحي بين 60 و70%.
ويسهم ذلك -وفق خبراء اقتصاديات الصحة- في زيادة نسب الفقر وخلخلة كفاءة النظام الصحي وعرقلة وصول المواطنين إليه، خاصة في ظل ضعف نظم التأمين الصحية العامة التي لا تغطي الفئات المهمشة والأكثر فقرا.
نجحت حملة #انقذوا_رقيه في جمع 43مليون جنيه لإنقاذها من ضمور العضلات الشوكي الفتاك لشراء أغلى حقنة علاج في العالم، في واحدة من حسنات وسائل التواصل، ولمحة عظيمة من لمحات التكافل، عند شعب #مصر المطحون، أسأل الله أن يكتب لها الشفاء والعافية التامة. #رقيه_محتاجاكم لا تنسوها من دعاكم pic.twitter.com/XNEI3J90Cl
— د. محمد الصغير (@drassagheer) June 26, 2022
تحديات ومبادرات
وأقر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن انخفاض الدخل المصري يتسبب في عدم وجود علاج جيد للمواطنين، فضلا عن الطعام والتعليم.
وخلال مشاركته في إطلاق المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية في فبراير/شباط الماضي خاطب السيسي الدول الغربية التي تطالب مصر بإصلاحات في مجال حقوق الإنسان، مشيرا إلى أن عدد سكانها يتجاوز 100 مليون نسمة، مضيفا "حقوق إيه، أنا لا أستطيع إطعام الناس أو تعليمهم أو علاجهم أو توفير السكن أو توفير فرص عمل".
وفي 5 يونيو/حزيران الجاري قال السيسي -خلال حضوره فعاليات المعرض والمؤتمر الطبي الأفريقي الأول الذي عقد في القاهرة- إن قدرات مصر الاقتصادية لا تتيح تقديم خدمة طبية بالمعايير العالمية لنحو 100 مليون بسهولة، وهو أمر نعترف به.
لكنه أضاف أن هذا الأمر يمكن تجاوزه بالإصرار والجهد والعمل والأفكار المبتكرة للتغلب على قلة الموارد وشح الأموال المخصصة.
وخلال السنوات الماضية أطلقت مصر عدة مبادرات صحية تحمل صفة "الرئاسية" مثل حملة "100 مليون صحة" للكشف عن فيروس "سي" (C) والأمراض غير السارية، والاكتشاف المبكر لمرض سرطان الكبد وعلاجه، وإنهاء قوائم انتظار العمليات الجراحية، ومبادرة دعم صحة المرأة المصرية وغيرها.
وتعتمد هذه المبادرات في تمويلها بشكل أساسي -إلى جانب الموازنة الحكومية- على التمويل الدولي، ولا سيما من البنك الدولي أو المحلي من صندوق "تحيا مصر" القائم على تبرعات المواطنين المصريين بشكل أساسي.
ووفق تصريحات مسؤولي البنك الدولي، فقد تم تمويل حملة "100 مليون صحة" في إطار "مشروع تطوير نظام الرعاية الصحية في مصر" الذي أطلق عام 2018 بتكلفة 530 مليون دولار.
وقال ممثل البنك الدولي في مصر عمرو الشلقامي في سبتمبر/أيلول 2018 إن البنك الدولي قدم لمصر 300 مليون دولار لمسح مواجهة الأمراض السارية، و129 مليون دولار لمواجهة فيروس "سي".
تبرعات البسطاء
وفي هذا السياق، تلعب تبرعات المصريين الموجهة للإنفاق الصحي دورا تكافليا كبيرا في توفير الرعاية الصحية والعلاج لآلاف المرضى، وتساعد في استمرار العديد من المؤسسات العلاجية القائمة التي تقدم خدمة صحية مجانية أو منخفضة التكاليف.
وتعد مؤسسة مستشفى سرطان الأطفال في مصر (الشهيرة باسم مستشفى 57357) أحد أبرز الأمثلة على أهمية تبرعات المصريين، إذ تقوم المؤسسة على تقديم الخدمات الطبية للأطفال بالمجان اعتمادا على التبرعات.
ويعد المستشفى أكبر مركز لعلاج سرطان الأطفال في العالم من حيث الطاقة الاستيعابية بنحو 360 سريرا، ويقدم خدماته للأطفال من عمر يوم إلى 18 عاما بالمجان.
وخلال مايو/أيار الماضي ساعدت تبرعات المصريين المستشفى على تقديم أكثر من 24 ألف جرعة علاج كيميائي، و1084 جلسة علاج إشعاعي، وإجراء 436 عملية جراحية، و102 ألف فحص معملي، و5763 فحصا بالأشعة التشخيصية، وفق التقرير الشهري للمستشفى.
كما تعد مؤسسة مجدي يعقوب للقلب أحد المشروعات الطبية الكبرى القائمة على تبرعات المصريين التي مكنتها من إجراء عمليات جراحية بأحدث الأجهزة الطبية، وبتكاليف تصل إلى عُشر قيمتها في أوروبا وأميركا.
وأكد الجراح العالمي مجدي يعقوب في لقاء تلفزيوني في ديسمبر/كانون الأول الماضي أن معظم التبرعات التي تصل مؤسسته تأتي من المواطنين البسطاء، إلى جانب بعض الشركات، وهو ما مكن المؤسسة من شراء أحدث الأجهزة الطبية في العالم.
وتساهم العديد من منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية القائمة على تبرعات المواطنين المصريين في تقديم الرعاية الصحية لآلاف المرضى، ومن بينها مؤسسة مرسال التي ترعى 43 ألف مريض، وتقدم أدوية شهرية تصل قيمتها إلى 14 مليون جنيه، وفق تصريحات مؤسستها هبة راشد.
دور غائب
ورغم التبرعات المعلن عنها من جانب عدد من رجال الأعمال والأثرياء من الفنانين والرياضيين لصالح القطاع الصحي تغيب أي مبادرات قوية من جانبهم لإنشاء مستشفيات جديدة كما كان يفعل رجال الأعمال قديما، مثل الاقتصادي المصري عبد الرحيم الدمرداش باشا الذي أنشأ مستشفى الدمرداش في ثلاثينيات القرن الماضي.
وإلى جانب التبرعات المحدودة -وفقا للمعلن منها- يشارك رجال الأعمال والمشاهير في حملات لدعوة الموطنين إلى التبرع، وهو الدور الذي لا يتوانى المصريون البسطاء عن تأديته بقوة وإخلاص.