مسلسل رمضاني يتطرق للشدة المستنصرية.. أشهر مجاعات مصر بين الواقع والتهويل

من مسلسل بيت الشدة يحاكي روايات تاريخية عن اختطاف الناس من الشوارع بالخطاطيف (مواقع التواصل)

القاهرة – في ظل معاناة المصريين من ارتفاع الأسعار ومخاوفهم من التأثيرات السلبية لسد النهضة الأثيوبي على نهر النيل، فاجأ صناع مسلسل "بيت الشدة" المشاهدين بالحديث عما عرف بـ "الشدة المستنصرية" التي وقعت في مصر أيام الحكم الفاطمي، وأودت بحياة آلاف المصريين بسبب جفاف النيل وما أعقبه من مجاعة استمرت 7 سنوات.

وفى الحلقة الأولى من المسلسل الذي يعرض في رمضان الجاري، تحدث المعلم مختار صاحب مقهى شعبي عن الشدة المستنصرية وعن الأهوال التي عاشها سكان القاهرة تلك الفترة، لدرجة أنهم نبشوا القبور وأكلوا الكلاب وأكلوا لحوم بعضهم البعض، بحسب قوله.

وأشار المعلم مختار إلى أحد بيوت القاهرة الفاطمية، وقال إن هذا البيت كان معروفا ببيت الشدة، وهو أشهر بيت أيام الشدة المستنصرية، حيث كان يلتقط أي شخص يمر تحته بخطاف، ولم يدخله أحد إلا وخرج منه عظاما في جراب.

وعرض المسلسل مشاهد درامية لأجزاء مما كان يحدث في شوارع مصر وقت المجاعة، مثل اختطاف الناس بالخطاطيف وأكل الميتة وغيرها من المشاهد الصادمة.

فهل أكل المصريون لحوم بعضهم فعلا أيام حكم المستنصر بالله؟ أم أن هذه مبالغات وخرافة تتناقض مع طبيعة الحال الذي كانت تعيشه مصر تلك الفترة، وهل تم تدوين وقائع الشدة المستنصرية في عهد المستنصر بالله، أم تم التأريخ لها بعد مئات السنين؟

أول مظاهرة نسائية بسبب "الشدة"

من أشهر الذين كتبوا عن الشدة المستنصرية المؤرخ أحمد بن علي المقريزي الشهير بـ "تقي الدين المقريزي" الذي ولد في القاهرة عام 1364 وعاش فيها ما يقرب من 80 سنة، وكتب عن أهوال الشدة المستنصرية في كتابه "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء".

ومن بين ما أورده المقريزي في كتابه عن تلك الفترة العصيبة "أكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به، وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية أن الماء بدينار، وبيع دار ثمنها 900 دينار بـ 90 دينارا اشترى بها دقيق، وعم الغلاء والوباء وانقطعت الطرقات برا وبحرا، وتصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين".

وبحسب رواية المؤرخ نفسه "أكل الناس القطط والكلاب، حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها، وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع ما على مقابر آبائه من رخام، وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه، وخرجت النساء جياعا يتظاهرن وقادت تلك المظاهرة أرملة الأمير جعفر بن هشام، وذلك بسبب شرائها قرصة بألف دينار".

ونقلت مجلة تايم الأميركية عن المقريزي تفاصيل تلك المظاهرة، ووصفتها بأنها أول مظاهرة نسائية في تاريخ مصر.

ورغم مرور نحو 300 عام بين وقت الشدة المستنصرية وبين تأليف المقريزي لكتابه، فإن معظم كتب التاريخ تناقلت روايات هذا المؤرخ باعتبارها حقائق لا تقبل التشكيك. كما أن تلك الروايات يتناقلها المصريون حين يتعرضون لمخاطر اقتصادية خصوصا ما يتعلق بمياه نهر النيل التي تمثل شريان الحياة الرئيسي.

مبالغات المقريزي

الباحث في شؤون التاريخ والآثار عماد حمدي، يقر بوقوع الشدة المستنصرية، ولكنه يرى -في حديثه مع الجزيرة نت- أن هناك مبالغات متدوالة عن تفاصيل تلك المجاعة الشهيرة.

وأضاف حمدي أن ما يعرف بالشدة المستنصرية حدثت بفعل انحسار مياه النيل، واستمرت 7 سنوات، ولكن القول إن المصريين أكلوا الجيفة وصنعوا خطاطيف واصطادوا بها بعضهم من الشوارع مبالغات غير منطقية، ولا نعرف من أين جاء المقريزي بهذه الروايات، رغم أنه يفصله عن تلك الفترة ما يقرب من 4 قرون.

واعتبر الباحث أن من الأمور، التي تدل على أن رواية المقريزي مليئة بالمغالطات والمبالغات التاريخية، أن بدر الدين الجمالي وهو وزير المستنصر بالله، حينما أتى به من الشام لكي يقضي على الاضطرابات التي شهدتها مصر بسبب المجاعة وبسبب الصراع بين رجال المستنصر، استطاع أن يعيد الأمور إلى نصابها، وعاد الفلاحون للزراعة بعدما أقام الجسور وطهر الترع.

وتابع بالقول إنه لو كان المصريون قد أكلوا بغلة الخليفة كما أكلوا بعضهم البعض كما يقول المقريزي، لكانوا قد أكلوا قوات بدر الجمالي، وأكلوا الخليفة نفسه، الذي يقول عنه المقريزي إنه لم يعد يمتلك شيئا وباع كل ما يملك، ولو صح ذلك فكيف استطاع أن يستقدم الجمالي، وأن ينفق على قواته.

وانتقد تعرض مسلسل "بيت الشدة" لهذا دون تدقيق تاريخي، ومترحما على الأيام التي كانت مصر تنتج فيها أعمالا تاريخية عظيمة، حيث كانت هناك لجان من أكبر أساتذة التاريخ لمراجعة تلك الأعمال، حسب قوله.

تناقضات وتهويل

بدوره، يصف محمد حمزة الحداد عميد كلية الآثار الأسبق وأستاذ العمارة والفنون الإسلامية بجامعة القاهرة رواية المقريزي، عن الشدة المستنصرية، بأنه يغلب عليها المبالغة والتهويل.

وفي تصريحات صحفية، قال الحداد إن الشدة وقعت بالفعل بفعل انخفاض منسوب نهر النيل، لكن التهويل والمبالغة وقعت بسبب الاعتماد على الروايات الشعبية، بالإضافة إلى تأريخ تلك الفترة بعدها بقرون وليس أيامها.

وأضاف الحداد: كما أن الشدة تم التغلب عليها بشكل محكم وسريع من خلال مجهودات الجمالي الذي استطاع أن يسيطر على الأمور ويقر الأمن ويبني أسوارا ضخمة ذات بوابات مهيبة، على حد قوله.

وتساءل الأكاديمي "هل من المعقول دولة أهلها يأكلوا بعضهم البعض ويرتضون على أنفسهم أكل الحمير والقطط سيستطيعون أن ينهضوا مثل تلك النهضة؟ واصفا المقريزي بأنه معروف بالمبالغة، حيث كان يكتب أي رواية تُقال أمامه.

وأشار إلى أن الآثار الباقية من عهد المستنصر سواء قبل أو بعد الشدة في منتهى الروعة، مثل النسيج والتحف والعملات الذهبية، مضيفا "يصعب أن يكون رجل وصل به الحال وببلاده إلى المرويات المتداولة عن الشدة المستنصرية أن تنتج هذا النتاج الحضاري الضخم، نعم قد تمر بشدة، ولكن ليس لدرجة أن يأكل أهلها بعضهم البعض أو يأكلوا الحيوانات".

أسباب سياسية

وبعيدا عن انحسار النيل ودوره في الشدة، تحدث الشاعر وأستاذ العلوم السياسية تميم البرغوثي عن الأسباب السياسية التي أدت في النهاية إلى وقوع الشدة، وقال إن أكثر المؤرخين لا يرجعون السبب في الشدة المستنصرية إلى انخفاض النيل، بل معظمهم يرجع السبب إلى حرب العصابات التي دارت بين الأمراء الطامعين في الوزارة، وفي مقدمتهم الأمير الحسن بن الحسين الحمداني الذي دخل في صراع مع الخليفة المستنصر.

وفي حلقة من برنامجه "مع تميم" قال البرغوثي "حينما عُزل المستنصر الحسن بن الحسين الحمداني الملقب بذي المجدين من ولاية الشام، جاء إلى مصر وجند البدو وحاصر القاهرة قاطعا عنها مدد المؤن والطعام القادم من الدلتا والصعيد، وصادف ذلك مع انخفاض النيل فجاع الناس ووقعت الشدة".

ويكمل البرغوثي "ولرفع الغلاء عن الناس اضطر المستنصر لتولية ذي المجدين الوزارة، وما إن تنفس الناس الصعداء بعد فك الحصار عن القاهرة، قتل ذي المجدين على يد أصحابه غدرا". الغريب في الأمر -كما يرى البرغوثي- هو سكوت المصريين عما جرى لهم، وأن المستنصر أكمل حكمه ولم يخلعه أحد.

المصدر : الجزيرة