هزيمة مدوية لليسار الفرنسي.. هل يخسر الاشتراكيون في أوروبا المعركة أمام اليمين المتطرف؟

فكرة اليسار التقليدي يبدو أنها لم تعد مغرية، وما يحدث حاليا في أوروبا هو توجه نحو فكرة "اليسار- الوسط"، وهذا ما يحاول القيام به زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر الذي يحاول إعادة حزبه لما تعرف بـ"البليرية" تيمنا بتيار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي كان أقرب للوسط منه إلى اليسار

المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الأمريكية بيرني ساندرز، وزعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن، وزعيم حزب "فرنسا الأبية" (La France insoumise) جون لوك ميلونشون.
ساندرز (يسار) وكوربن (وسط) وميلونشون نجحوا بشكل استثنائي في تعبئة الشباب في بلدانهم بالأفكار اليسارية (وكالات)

لندن- شهدت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة في دورها الأول هزيمة تاريخية وغير مسبوقة لحزب تاريخي وعريق في البلاد، ويتعلق الأمر بالحزب الاشتراكي الذي حصلت مرشحته آن هيدالغو على 1.6% فقط من مجموع الأصوات.

هذا الرقم يشير إلى شبه اندثار للحزب الاشتراكي الفرنسي الذي كان قبل 5 سنوات فقط يحكم البلاد خلال ولاية الرئيس السابق فرانسوا هولاند القيادي في الحزب الاشتراكي.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

وليس الحزب الاشتراكي في فرنسا من يعاني، بل هناك حزب العمال الذي يوصف بكونه ممثل اليسار في بريطانيا، ومني هو الآخر بخسارة تاريخية في انتخابات سنة 2019 جعلته يقبع في المعارضة لمدة 20 سنة تقريبا.

هذه النتائج تفتح أكثر من علامة استفهام عن وضع اليسار في أوروبا، وهل يسير في طريق الاندثار والتراجع لصالح اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية؟

The 2021 Labour Conference - Day Three
حزب العمال البريطاني مني بهزيمة مدوية في انتخابات 2019 (رويترز)

الاستثناء الفرنسي

من خلال المرور على الخريطة السياسية لأوروبا بصفة عامة سيظهر أن الأحزاب اليسارية -خصوصا يسار الوسط أو اليسار الديمقراطي- تؤدي دورها بشكل جيد في العديد من الدول الأوروبية، فباستثناء فرنسا التي حقق فيها الحزب الاشتراكي نتيجة كارثية، وبريطانيا التي يعاني فيها حزب العمال في محاولة للعودة للسلطة ويخسر قلاعه الانتخابية التاريخية فإن الكثير من الحكومات الأوروبية يتم تسييرها من طرف أحزاب يسارية.

وسنجد أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني هو من يقود الائتلاف الحكومي، وفي أول اختبار محلي بعد 100 يوم من تسييره للبلاد نجح الحزب في الفوز في انتخابات ولاية سارلاند وسحب الأغلبية من الحزب الديمقراطي المسيحي الذي ظل يقود الولاية 20 سنة.

وفي إسبانيا، يقود الحزب الاشتراكي العمالي الحكومة، وبفارق مريح عن الحزب الشعبي اليميني الذي يعيش أزمة حقيقية ومواجهة مع حزب "فوكس" اليميني المتطرف، وفي البرتغال أيضا يقود الحكومة حزب اشتراكي.

إعلان

وفي النرويج، نجح حزب العمال الاشتراكي في قيادة الحكومة بأقلية بعد تحالفه مع حزب الوسط ليشكل حكومة وسط، ومنحت السويد والدانمارك وفنلندا الأغلبية للأحزاب المحسوبة على اليسار.

لكن فكرة اليسار التقليدي يبدو أنها لم تعد مغرية، وما يحدث حاليا في أوروبا هو توجه نحو فكرة "اليسار- الوسط"، وهذا ما يحاول القيام به زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمر الذي يحاول إعادة حزبه لما تعرف بـ"البليرية" تيمنا بتيار رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي كان أقرب للوسط منه إلى اليسار.

فتش عن الشباب

أظهرت معطيات "الباروميتر الأوروبي" (Eurobarometer) تزايدا في أعداد الشباب وما يسمى الجيل "زد" (Z) الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم يتبنون توجها يساريا أو أنهم مع أحزاب الوسط.

وحسب نفس المؤسسة الإحصائية، فإن استطلاعات الرأي تظهر تزايدا في دعم الشباب للأحزاب اليسارية وسياساتها، ذلك أن أهم الملفات التي تؤرق هذا الجيل هي التغير المناخي والتمييز والعنصرية والخدمات الحكومية وتحسين جودتها.

وهم أيضا من أشد المؤيدين لفكرة الاتحاد الأوروبي، وهذا ما أظهره استفتاء البريكست، ذلك أن أكثر من ثلثي الشباب البريطانيين صوتوا لصالح البقاء داخل الاتحاد.

ويقدم ثلث الشباب الأوروبيين الذين ولدوا مع بداية سنة 2000 أنفسهم بأنهم ينتمون لتيار الوسط، فيما يقول خمس هؤلاء الشباب إنهم ينتمون إلى اليسار، وقال 10% إنهم مؤيدون لليسار الراديكالي.

هدف إستراتيجية اليسار الشعبوي هو بناء "الشعب"، أي الإرادة الجمعية، من خلال التعبير عن العديد من المطالب الديمقراطية المتغايرة
الأحزاب اليسارية الغربية تمكنت من جذب الشباب لأفكارها رغم تعثر بعضها في الانتخابات (رويترز)

الكلمة للشيوخ

إذا كان اليسار يحظى بشعبية واسعة في صفوف الشباب فلماذا لا يرجحون كفته في الانتخابات، خصوصا في دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا؟

الجواب يتجلى في كون الشباب في أوروبا يعتبرون أقلية، فحسب الأرقام المقدمة من الوكالة الأوروبية للإحصاء "يورو ستات" (Eurostat) فإن 26% فقط من الأوروبيين هم تحت سن 25 سنة، في المقابل فإن 40% تفوق أعمارهم 50 سنة وما فوق.

وإضافة إلى كونهم أقلية فإن استطلاعا للرأي من مؤسسة "يوغوف" (YouGov) أظهر أن الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة لا يشاركون كثيرا في الانتخابات، ذلك أن ثلث هذه الفئة العمرية هي التي شاركت في الانتخابات التي شهدتها العديد من الدول الأوروبية سنة 2019.

ورغم ذلك ففئة الشباب ظلت عصية على اليمين المتطرف لحد الآن، ورغم محاولة استمالة هذا التيار الشباب مستغلا أنهم لم يعيشوا ويلات الحركات القومية التي نشأت في أوروبا وما أحدثته من دمار فإن الشباب الأوروبيين ما زالوا لحد الآن بعيدين عن التصويت لليمين المتطرف.

mubasher.aljazeera.netmubasher.aljazeera.net تصاعد عداء اليمين المتطرف.. مسلمون يفكرون في مغادرة فرنسا بعد رئاسيات 2022
تصاعد عداء اليمين المتطرف يدفع مسلمين للتفكير في مغادرة فرنسا بعد رئاسيات 2022 (الجزيرة)

الثلاثي الملهم

نجحت 3 أسماء تتبنى الأفكار اليسارية في تعبئة الشباب بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة، ويتعلق الأمر بكل من المرشح السابق للانتخابات الرئاسية الأميركية بيرني ساندرز، وزعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن، وزعيم حزب "فرنسا الأبية" جان لوك ميلونشون.

إعلان

ويجمع هؤلاء الثلاثة أنهم خلقوا حالة غير مسبوقة من حشد الشباب خلفهم بفضل شعاراتهم عن العدالة الاجتماعية، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، وفرض الضرائب على الأغنياء والثروات الفاحشة.

وكان الثلاثة أقرب من قلب الطاولة على الجميع، فجيرمي كوربن كان سنة 2017 قريبا من الوصول لرئاسة الوزراء، وميلونشون كان يحتاج لحوالي 400 ألف صوت فقط لتجاوز مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان والوصول للدور الثاني في انتخابات هذه السنة، وكذلك بيرني ساندرز الذي جمع لصالحه ملايين الأصوات في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية الأميركية سنة 2020.

عمر إسماعيل سكرتير حزب العمال المعارض عن دائرة واتفورد
عمر إسماعيل: تراجع وهج الأحزاب اليسارية في أوروبا بسبب غياب الزعامات الحقيقية الملهِمة (الجزيرة)

غياب الزعامات

بدوره، يفسر الرئيس السابق للكتلة العربية في حزب العمال البريطاني عمر إسماعيل تراجع وهج الأحزاب اليسارية التاريخية في بعض الدول بغياب "الزعامات الحقيقية القادرة على إلهام الشعوب، خصوصا خلال فترة الأزمات".

ويرفض إسماعيل في حديثه مع الجزيرة نت فكرة "موت اليسار لأن الأيديولوجيا الاشتراكية لم تمت، بل موجودة ولها قواعدها في أوروبا"، مشيرا إلى مراكز القوى في أوروبا لا تريد وصول شخصيات بفكر يساري حقيقي للحكم "لأن هذا الأمر يشكل تهديدا لها".

ويضرب إسماعيل المثال بما تعرض له جيرمي كوربن خلال انتخابات 2019 في بريطانيا "حينها كان كوربن مرشحا للفوز برئاسة الوزراء إلا أن كل مؤسسات الدولة الصلبة تعاونت من أجل إفشاله والهجوم على شخصه والتحريض عليه باستخدام الإعلام".

وعن الوضع في فرنسا يتوقع إسماعيل أن ماكرون "لن يجد طريقة للعودة إلى قصر الإليزيه دون اللجوء إلى قوى اليسار الفرنسي، لمساعدته في مواجهة المد الكبير لليمين المتطرف، وهذا يعني أن اليسار ما زال له وزن".

خطر الشعبوية

من جهته، يرى البروفيسور في جامعة برمنغهام كامل حواش أن اليسار وكل التيارات السياسية الأوروبية تواجه "خطر الشعبوية واليمين المتطرف والشعارات التي تحملها من أميركا أولا وبريطانيا أولا".

وتوقع البروفيسور البريطاني في حديثه مع الجزيرة نت أن التطورات الأخيرة بعد وباء كورونا والحرب في أوكرانيا "قد تؤدي إلى تراجع نفوذ اليمين المتطرف والعودة لمبادئ اليسار، خصوصا في ما يتعلق بالتوزيع العادل للثروة والتشبث بفكرة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أيضا".

المصدر: الجزيرة

إعلان