شرّعه إسحق رابين إبان انتفاضة الحجارة.. الجزيرة نت تستمع لرواية ضحايا قرار "تكسير العظام"

عاطف دغلس- فلسطيني يتظاهر قرب جنود اغلقوا مدخل نابلس الغربي قبل اسابيع قليلة- الضفة الغربية- نابلس- دير شرف غرب نابلس- الجزيرة نت11
فلسطيني يتظاهر قرب جنود إسرائيليين أغلقوا مدخل مدينة نابلس الغربي قبل بضعة أسابيع (الجزيرة)

نابلس- لم يكن 26 فبراير/شباط عام 1988 يوما عاديا في حياة المواطنيْن وائل وأسامة جودة، ورغم موت محتّم شاءت الأقدار أن يخرجا أحياء من بين 4 جنود إسرائيليين أحاطوا بهما وأثخنوهما ضربا بكل قوتهم وأدواتهم من أعقاب البنادق إلى الخوذ الحديدية والحجارة.

كان الجنود حينئذ يسقطون واقعا قرارا عسكريا شرَّعه وزير جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين، ويقضي بتكسير عظام "أطفال الحجارة" في أولى خطواته لردعهم وقمع انتفاضتهم (الانتفاضة الأولى) ضده التي لم يمض عليها سوى أسابيع قليلة.

وبعبارتهما "لحسن الحظ أن تم تصويرنا، وأن حجارة فلسطين كانت رحيمة بنا، وإلا أمسينا في عداد الموتى" يؤرخ الفلسطينيان وائل (52 عاما) وأسامة (56 عاما) لحدث جلل وسياسة إسرائيلية (تكسير العظام) كانا من أول من اكتووا بنارها إبان اندلاع الانتفاضة الأولى في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987.

وهناك في أرض "الصفحة" التابعة لقرية عراق بورين قرب مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية، التي ينحدر منها المواطنان جودة تعود التفاصيل، حيث كانا يرعيان الأغنام ويستعدان للعودة إلى منزليهما بعد أن أوشكت الشمس على الغروب.

يقول وائل للجزيرة نت التي زارته بمنزله إن 4 جنود مدججين بالسلاح فاجؤوهما ذلك اليوم بهجوم مباشر، فأمسك بهما جنديان وآخران التقطا حجارة وشرعا بضربهما دونما رحمة، ثم انهال الجنود عليهما بالضرب بأعقاب البنادق والهراوات والخوذ، والركل بأرجلهم بكل مكان تصل إليه فوق جسديهما، حسب قوله.

إعلان

 

 

"ولدنا لنقتل الفلسطيني"

وطوال 10 دقائق استمر الضرب وخاصة بالحجارة، بينما استغرق الحدث بأكمله نحو 45 دقيقة، عمد الجنود خلالها إلى جرّهما وسط ضرب مبرح لمسافة كيلومتر فوق الصخور والأشواك من أعلى الجبل وصولا إلى الآليات العسكرية الموجودة وسط القرية.

ولم يكن يعلم وائل وأسامة -اللذان كانا بعمر 17 و21 عاما- حينئذ ما يجري من مواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال بمحيط قريتهما، "والأسوأ أن الجنود باغتونا وتوحشوا بضربنا من دون أن يوضحوا لنا شيئا"، كما يضيف وائل.

وتوحش الجنود بالضرب وبقصد القتل، فأحدهم حمل خوذته وقال لوائل "اقرأ ما كتب عليها"، وكانت عبارة باللغة الإنجليزية تقول "ولدت لأقتل الفلسطينيين"، بينما سمع أسامة جنودا آخرين يقولون "جئنا لنقتلكم".

وبعد الضرب اقتيد وائل وأسامة أسيرين إلى سجن نابلس المركزي (العمارة) وسط حالة يرثى لها، إذ كانا مهشّمين ومصابين بانتفاخات ورضوض صعبة، "ولم نكن نعرف أن الحدث صُوّر بكامله"، حسب قول أسامة للجزيرة نت.

وبكاميرته وثَّق مصور وكالة "سي بي إس" ( CBS) الأميركية موشي ألبرت جريمة الجنود، وفي اليوم التالي انتشر الفيديو عبر وسائل الإعلام كالنار في الهشيم، وأحدث ذلك ضجة لم ترغبها إسرائيل.

كان وائل وأسامة يقضيان ليلة شتاء طويلة وباردة في السجن، ولم يعلما أن قصتهما ملأت العالم، وليسا "ميتين"، كما أخبرهما الضابط الإسرائيلي عمرام متسناع قائد المنطقة الوسطى بما يتناقله الناس حينما زارهما في السجن وحاول تخفيف حدة المشهد بادعائه محاسبة جنوده وإتاحة المجال لوسائل الإعلام للقاء الأسيرين جودة قبل إطلاق سراحهما.

V
وائل جودة كان بعمر 16 عاما عندما تعرض هو وابن عمه أسامة للضرب بأعقاب البنادق والهراوات والخوذ من قبل جنود الاحتلال (الجزيرة)

المخفي أعظم

يقول أسامة إن "العالم عرف بقصتنا لأنه رآها"، لكنه لم ير أن الحدث ذاته عاشه وفي اليوم نفسه شبان آخرون بمنطقة الضاحية في نابلس، وأضاف "رأيناهم في المعتقل وفي المستشفى، لكن الكاميرا لم توثقهم مثلنا".

إعلان

وبطرقهما المختلفة يحتفظ كل من وائل وأسامة "بالمأساة" كما يصفانها، فوائل زار المكان مرات عدة ورافق صحفيين إليه، أما أسامة فلم يزره إطلاقا واكتفى بتخزينه كشاهد على إجرام الاحتلال.

ولم يقاض أي منهما الاحتلال لإيمانهما المطلق بغياب العدالة لديه، وتأكيدهما أن سياسته بقمع الفلسطينيين مستمرة ولم تتغير منذ 35 عاما، بل تجاوزت "تكسير العظام" لاستهداف الجسد بكامله وقتله بدم بارد.

5 رصاصات من مسافة صفر

وفي بلدة حوارة قبل أيام كان هذا القتل واضحا عندما أعدم ضابط إسرائيلي بـ5 رصاصات ومن مسافة صفر الشاب الفلسطيني عمار مفلح (22 عاما) من قرية أوصرين جنوبي نابلس.

ويؤكد بشار مفلح -للجزيرة نت- أن شقيقه قتل مرتين وبدم بارد ومع سبق الإصرار بينما كان في طريقه إلى قرية حوارة المجاورة لشراء الدواء لوالده المريض، فالمستوطن دهسه وأطلق النار عليه من قريب بعدما حاول الدفاع عن نفسه، فأصابه بكتفه.

ولم يشفع له ذلك أمام الجنود الذين لحقه أحدهم واعتدى عليه، "وعندما حاول أخي التصدي له أفرغ الجندي 5 رصاصات برأسه وصدره ومن مسافة صفر وأعدمه"، حسب بشار.

ورغم أن مشهد قتل عمار وُثِّق ونشر بالصوت والصورة فإن الاحتلال لم يرتدع، بل ضاعف مأساة العائلة واحتجز جثمان شهيدها، وهو ما قاد أهالي أوصرين والقرى المجاورة إلى انتفاضة مصغرة وبشكل يومي عند الحاجز الرئيسي.

لكن المستقبل يحمل انتفاضة أوسع وأكثر تنظيما كما يقول محللون وخبراء سياسيون، وتؤكده المعطيات على الأرض، فإسرائيل قتلت منذ بداية العام الجاري 217 فلسطينيا (52 في غزة و165 بالضفة الغربية)، وقلعت أكثر من 9 آلاف شجرة زيتون وصادرت عشرات آلاف الدونمات لمصلحة مستوطناتها التي قفزت عن 310 مستوطنات.

عاطف دغلس- أسامة جودة يظهر الطريقة التي اعتدي عليه بها بالرغم من محاولته صد بعض الضربات والطعنات- الضفة الغربية- نابلس- عراق التايه - الجزيرة نت6
أسامة جودة يقول إنه سمع جنود الاحتلال يقولون خلال حادثة "تكسير العظام": جئنا لنقتلكم (الجزيرة)

الدم الفلسطيني وقود إسرائيل

وهذا التصعيد كما يراه نشأت الأقطش الخبير بالشأن السياسي الفلسطيني سببه "الأزمة الداخلية" التي تعيشها إسرائيل وتريد تصديرها للضفة الغربية باعتبارها "الساحة الرخوة والأضعف" أمام خيارات غزة وجنوب لبنان، كما أن الضفة مستباحة من اليمين المتطرف الإسرائيلي الذي يؤمن بقتل الفلسطيني كعقيدة لضمان أمن إسرائيل.

إعلان

وعلى صعيد آخر لا يقل خطورة، يقول الأقطش إن بنيامين نتنياهو يخطط ويروّج لفكرة تسليح المستوطنين باسم مجموعات "شباب التلال"، كحالة جديدة ضد الفلسطينيين، ليظهر للعالم أن هناك حربا أهلية بين السكان ويخفي كلمة "احتلال".

والأخطر أن الاحتلال لم يعد إستراتيجية واضحة، وأن ما يقوم به "ردود أفعال" وهو يصعِّد لتحقيق أهدافه وسط حالة من التخبط غير المفهوم بالمجتمع الإسرائيلي.

عاطف دغلس- فلسطيني يحرق الاطارا المطاطة خلال فعالية مقاومة بنابلس-- الضفة الغربية- نابلس- دير شرف غرب نابلس- الجزيرة نت12
بعض الخبراء والمحللين السياسيين يرون أن المستقبل يحمل انتفاضة أوسع وأكثر تنظيما (الجزيرة)

الانتفاضة ليست تقليدا

ومن ثم، فإن ما يجري لا يمكن وصفه بغير انتفاضة، حسب الأقطش الذي يضيف أن "من الخطأ أن نظل نقيس على نموذج الانتفاضة الأولى والثانية، ولهذا فإن ما نشهده منذ عام 2015 يعد انتفاضة فردية وغير منظمة نابعة من الغضب الفلسطيني على واقع الخذلان العربي والداخلي أيضا".

ويرى الخبير أن هذه الانتفاضة اختلفت عن الانتفاضات الثانية والسابقة، وظلت بشكلها الفردي حتى توّجت بعرين الأسود "وهو تنظيم هلامي لا شكل له" ومجموعات صغيرة قوامها بضعة أشخاص وتنظم نفسها وتنطلق من إدارة ذاتية، ولكنها حظيت باستعطاف الناس، وهذا سرها بالبقاء والاستمرارية، حسب وصفه.

لكن من الصعب، في رأي الأقطش "أن نرسم شكلا محددا للانتفاضة القادمة لنقول إنه هو، لا سيما في ظل ملاحقة الاحتلال ومراقبة طرفي الحكم بالضفة الغربية وغزة، وهنا تكمن الخطورة، فالاحتلال لطالما كان عاجزا عن حماية نفسه، وكان يحتاج لقوى تكبل الشعب الفلسطيني، وهو ما يحدث اليوم".

المصدر : الجزيرة

إعلان