استشهد فيها 1555 فلسطينيا وشهدت سياسة "تكسير العظام".. 35 عاما على انتفاضة الحجارة

Palestinian youths, holding a Palestinian flag, throw rocks in Gaza during violent demonstrations on December 14, 1987 on the seventh day of the Intifada. The First Intifada, a Palestinian uprising against the Israeli occupation of the Palestinian Territories erupted in the Jabalia refugee camp and quickly spread throughout Gaza, the West Bank and East Jerusalem. (Photo by SVEN NACKSTRAND / AFP)
شبان فلسطينيون يرفعون العلم ويرشقون الاحتلال بالحجارة إبان انطلاق الفلسطينية الأولى عام 1987 (الفرنسية)

رام الله- يحيي الفلسطينيون في الثامن من ديسمبر/كانون الأول من كل عام ذكرى اندلاع أوسع انتفاضة شعبية ضد الاحتلال عام 1987.

وجاءت الانتفاضة بعد نحو 4 عقود على احتلال القسم الأول من فلسطين في النكبة عام 1948، وعقب نحو عقدين على احتلال ما تبقى من البلاد عام 1967، وبعد 5 سنوات على اجتياح لبنان وإخراج منظمة التحرير وفصائل الثورة الفلسطينية منها.

وفي الثامن من ديسمبر/كانون الأول صدر البيان رقم "1" عن القوى الوطنية الفلسطينية محددا أياما للتصعيد والإضراب الشامل تحت شعار "ليسقط الاحتلال، عاشت فلسطين حرة عربية"، وكانت للحدث أسبابه وتداعياته وانعكاساته الميدانية والسياسية.

Palestinian children throw stones and wave Palestinian flags during demonstrations Feb 18 (1987), in Nuseirat refugee camp in the Gaza Strip. (Photo by ESAIAS BAITEL / AFP)
الانتفاضة الأولى عرفت أيضا باسم "انتفاضة أطفال الحجارة" (الفرنسية)

لماذا وكيف اندلعت انتفاضة 1987؟

"انتفاضة الحجارة" أو "الانتفاضة الأولى" أو "انتفاضة 1987" كلها مسميات رديفة لهبة فلسطينية شاملة امتدت لسنوات، متخذة من الحجارة سلاحا لمواجهة مركبات وعتاد جيش الاحتلال والمستوطنين.

وشكّل قيام جندي إسرائيلي بدعس مجموعة من العمال الفلسطينيين من قطاع غزة الشرارة التي فجرت الغضب الفلسطيني نتيجة بطش الاحتلال من جهة، والوعود الكاذبة بتحرير وطنهم وإعادة اللاجئين من جهة أخرى، فبينما كانت حافلة تقل عمالا تستعد للتوقف على حاجز عسكري إسرائيلي داهمتها شاحنة عسكرية يقودها جندي إسرائيلي، فاستشهد 4 عمال وجرح 7 آخرون.

وصب فرار سائق الشاحنة من الحاجز الزيت على نار الغضب في غزة أولا، ثم امتد إلى الضفة الغربية في اليوم التالي مع تشييع جثامين الشهداء الأربعة.

ماذا كانت أدوات انتفاضة الحجارة؟

استخدم الفلسطينيون حجارة بحجم قبضة اليد سلاحا لمواجهة الجنود والمستوطنين الإسرائيليين في شوارع الضفة وغزة، كما استخدموا الحجارة الكبيرة والإطارات المطاطية لإغلاق شوارع يسلكها مستوطنون، أو لمنع تقدم الجيبات العسكرية خلال اقتحامها الأحياء والقرى والمدن الفلسطينية.

وتطورت الانتفاضة إلى استخدام زجاجات مملوءة بالمحروقات يخرج منها فتيل مشتعل وتلقى نحو الدوريات العسكرية وسيارات المستوطنين، فتتحطم وتشتعل بها النيران، وتسمى "مولوتوف".

وخلال الانتفاضة تحولت الجدران إلى أشبه بلوحات إعلانية لكتابة الشعارات وتعميم الفعاليات وأيام الإضراب وتصعيد المواجهة وإيصال رسائل القيادة إلى الشارع من خلال نشطاء ملثمين.

وتشبه انتفاضة الحجارة إلى حد كبير الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني ومخططات الاستعمار الصهيوني عام 1936 من حيث الزخم الشعبي.

أحد أعداد جريدة الطليعة الفلسطينية بعد اندلاع الانتفاضة (موقع الأرشيف الفلسطيني)

ما العوامل التي ساعدت على انطلاق انتفاضة الحجارة؟

جاء اندلاع الانتفاضة في ظروف سياسية صعبة مع تضييق الأنظمة على قيادة منظمة التحرير وتوقف العمليات عبر الحدود مع فلسطين وبعد سنوات من اجتياح لبنان عام 1982 وترحيل القيادة الفلسطينية إلى تونس.

كما جاءت الانتفاضة كما الهبات الفلسطينية اللاحقة في وقت كادت فيه القضية الفلسطينية تسقط من الأجندة العربية، إذ غاب الملف الفلسطيني عن طاولة القمة العربية الطارئة في العاصمة الأردنية يوم الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 1987 لصالح الحرب العراقية الإيرانية آنذاك.

وقبل كل ذلك، تعرض الفلسطينيون لضغوط وملاحقات الحكم العسكري الإسرائيلي على حياتهم اليومية، واستمرار تغول الاستيطان على أراضيهم.

كيف عمل الاحتلال على إخماد الانتفاضة؟

اتخذ الاحتلال الإسرائيلي من القمع أداة لمواجهة راشقي الحجارة، فاستخدم الرصاص الحي والمطاطي والقنابل الغازية والصوتية، وساعدته في ذلك طائراته المروحية لإخماد الانتفاضة.

كما شاعت سياسة "تكسير العظام" التي اتبعها الجنود بحق راشقي الحجارة في عهد وزير الجيش آنذاك إسحاق رابين.

وانتهج الاحتلال في تلك الانتفاضة سياسة فرض حظر التجول على قرى ومدن تتصدر المواجهة، وأغلق المدارس والجامعات ولاحق الناشطين الفلسطينيين بالقتل والاعتقال حتى اكتظت السجون ومراكز التوقيف الإسرائيلية بالمعتقلين الذين فاق عددهم 200 ألف بين نهاية 1987 و1994.

وبعد شهور من انطلاقها استحدث الاحتلال سجونا جديدة، أبرزها سجن النقب الصحراوي (جنوب) وسجن عوفر غربي رام الله (وسط) اللذان شيدا بالخيام، وفق الباحث في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة متحدثا للجزيرة نت.

وقال فروانة إن أوضاع السجون كانت سيئة جدا وبلا خدمات أو إمكانيات أو ملابس "كنا نغوص في الطين في سجن النقب، وننام على أخشاب تشبه الأسرّة، ونقضي الحاجة في حمام من الزينكو (صفيح الحديد)".

ويضيف أن "اعتقالات واسعة وعشوائية رافقت بدايات الانتفاضة بهدف وأدها، رافقها تعذيب شديد راح ضحيته 42 أسيرا، أولهم خضر الترزي من غزة، وهو مسيحي".

وكان فروانة -الذي تعرض للتعذيب 100 يوم أواخر 1989- شاهدا على استشهاد اثنين من الأسرى هما جمال أبو شرخ وخالد الشيخ علي في سجن غزة المركزي.

خبر اغتيال مهندس الانتفاضة الأولى خليل الوزير (أبو جهاد) في صحيفة القدس يوم 17 أبريل/نيسان 1988 (أرشيف الصحافة الفلسطينية)

كم بلغ عدد ضحايا وخسائر الانتفاضة؟

وفق توثيق مركز المعلومات الفلسطيني (جهة حكومية)، استشهد 1550 فلسطينيا وجرح نحو 70 ألفا خلال انتفاضة الحجارة.

ووفق المعطيات ذاتها، أصيب نحو 40% من الجرحى بإعاقات دائمة، 65% منهم يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف، أو تعرضوا لبتر أطرافهم.

وخلال الانتفاضة اغتالت إسرائيل قادة بارزين ومحركين للانتفاضة، بينهم خليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتيل في تونس يوم 16 أبريل/نيسان 1988، وصلاح خلف أبو إياد الذي اغتيل أيضا في تونس في 14 يناير/كانون الثاني 1991، وكلاهما من قيادات حركة فتح.

وتفيد معطيات منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية بأن نحو 70 جنديا و99 مستوطنا إسرائيليا قُتلوا بين 1987 و13 سبتمبر/أيلول 1993 يوم توقيع اتفاق أوسلو.

ووفق المصدر نفسه، هدمت قوات الاحتلال 431 منزلا فلسطينيا بشكل كامل، و59 بشكل جزئي، وأغلقت 386 منزلا بشكل جزئي أو كامل حتى 1993.

لماذا كانت انتفاضة الحجارة مهمة؟

يقول مدير مركز يبوس للبحوث سليمان بشارات إن الانتفاضة كانت "مرتكزا مهما في تاريخ الحالة النضالية الفلسطينية".

وذكر لذلك أسبابا، في مقدمتها أنه "لأول مرة منذ الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 يستطيع المجتمع التحرك بشكل جمعي جماهيري في وجه الاحتلال بعد محاولة ترويض الفلسطينيين وإجبارهم على قبول الأمر الواقع".

وأضاف بشارات أن الانتفاضة "دفعت جميع فئات المجتمع من مثقفين وعامة ونخب سياسية للانخراط فيها دون تمييز على أساس طبقي أو حزبي".

وتابع أن تلك الانتفاضة شكلت انطلاقة للعمل النضالي التنظيمي "فرغم أن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كانت قائمة قبل الانتفاضة فإن الانتفاضة شكلت فرصة للانطلاق على الأرض حتى تتحول الشعارات إلى عمل نضالي".

وقال بشارات إن انتفاضة 1987شكلت انطلاقة الحركات الإسلامية كحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وبالتالي ساهمت في إحداث حالة من المنافسة بين التنظيمات.

وفضلا عن ذلك، شكلت الانتفاضة "ذاكرة وطنية يمكن تناقلها بافتخار، واستطاعت أن تحدث فارقا على الأرض، وبالتالي استحضارها من باب التمجيد" حسب بشارات.

Israeli soldiers patrol on December 12, 1987 in Nablus as demonstrations continue on the fourth day of the Intifada. The First Intifada, a Palestinian uprising against the Israeli occupation of the Palestinian Territories erupted in the Jabalia refugee camp and quickly spread throughout Gaza, the West Bank and East Jerusalem. (Photo by ESAIAS BAITEL / AFP)
جنود إسرائيليون يلاحقون شبانا فلسطينيين خلال مواجهات بمدينة نابلس خلال الانتفاضة الأولى (الفرنسية)

هل من الممكن تكرار انتفاضة الحجارة؟

كل ما سبق -يتابع الباحث الفلسطيني- "عزز من خلق ما يمكن أن نسميه تاريخ النضال أو الذاكرة الوطنية التي جعلت من الأجيال اللاحقة تحاول أن تقلد أو أن تستلهم الفكرة للمستقبل".

ورغم تطور النضال ما بعد الانتفاضة الأولى وفي الانتفاضة الثانية (2000-2004) لا تزال الأدوات الشعبية تلقى حضورا في كل مواجهة تتجدد مع الاحتلال من إلقاء الحجارة إلى الزجاجات الحارقة إلى التلثم بالكوفية الفلسطينية، وغيرها من رمزيات بقيت حاضرة ومترسخة، حسب بشارات.

ومع ذلك، لا يرى الباحث الفلسطيني فرصة لتكرار التجربة نفسها بالتفاصيل ذاتها "لكن يمكن أن يكون مزيجا تفرضه طبيعة الحالة والوعي والأدوات".

وأشار إلى أحداث حي الشيخ جراح في القدس عام 2021، ومعركة البواب الإلكترونية أمام المسجد الأقصى عام 2017، ومسيرات العودة في قطاع غزة، والمسيرات الأسبوعية التي تجري ضد الاستيطان والجدار الفاصل بالضفة الغربية "جميعها قامت بشكل أساس على أدوات الانتفاضة الأولى، لكنها امتزجت مع أدوات عصرية، سواء في ما يتعلق بالساحات الرقمية الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي أو المضامين والشعارات، أو تطعيمها ببعض الأدوات القتالية الأخرى".

ما أبرز نتائج الانتفاضة؟

كان من أبرز النتائج عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، فضلا عن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية في المحافل الدولية، والتخطيط لإقامة دولة فلسطينية.

وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 عقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسة طارئة أُعلنت فيها "وثيقة الاستقلال" والبرنامج السياسي لتمكين الدولة الفلسطينية المستقبلية من ممارسة سلطتها الفعلية على أرضها، وفق قرارات الأمم المتحدة.

ومن النتائج السياسية السريعة إعلان الأردن فك الروابط القانونية والإدارية بين المملكة الأردنية والضفة الغربية المحتلة التي أدارتها بين عامي 1948 و1967، فكانت فرصة لمنظمة التحرير لتعزز وجودها السياسي على مختلف المستويات.

وحزبيا، برزت الحركات الإسلامية وتحديدا حركتي حماس والجهاد الإسلامي المختلفتين في برنامجيهما عن برنامج منظمة التحرير وعمودها الفقري حركة "فتح".

وألقى اختلاف البرامج بظلاله على الأرض، فبينما ذهبت حركة فتح ومنظمة التحرير إلى المفاوضات مع إسرائيل وصولا إلى اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993 وإقامة السلطة الفلسطينية كسبيل لإقامة الدولة واصلت الحركتان تمسكهما بالمقاومة وتطوير سلاحهما.

وبينما أجهزت إسرائيل على "أوسلو" بإعادة احتلال أراضي السلطة الفلسطينية في الانتفاضة الثانية واصلت حماس والجهاد تطوير سلاحهما بدءا من البنادق ومرورا بالعلميات التفجيرية وصولا إلى الصواريخ.

وتأتي الذكرى الـ35 للانتفاضة مع استمرار الانقسام الفلسطيني للعام الـ15 على التوالي، إذ تسيطر حكومة تقودها حركة فتح على الضفة، فيما تدير حركة حماس قطاع غزة.

لكن، إلى أي مدى حققت الانتفاضة أهدافها؟

يجيب الصحفي المقدسي محمد عبد ربه الذي واكب أحداث الانتفاضة الأولى، مبينا أنه رغم التضحيات الكثيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني من حيث الالتفاف الجماهيري والمشاركة الواسعة ومن حيث الدعم والإسناد والتضامن على مستوى العالم فإن النتائج كانت دون المستوى المطلوب.

ويقول عبد ربه "تم إجهاض الانتفاضة بالمفاوضات السرية التي توجت بأسوأ اتفاق يمكن اعتباره نكبة ثالثة للشعب الفلسطيني، بالنظر إلى تداعياته وما تمخض عنه من نشوء سلطة تحولت إلى مقاول يعمل لصالح الاحتلال".

وتابع أنه "كان من المأمول أن تفضي الانتفاضة إلى استقلال حقيقي، لكن النتائج جاءت عكس ذلك، بل تم إلغاء بنود مهمة في الميثاق الوطني"، في إشارة إلى شطب بنود تنص على "الكفاح المسلح" في اجتماع للمجلس الوطني عام 1998 في غزة.

لماذا لا تتحول الهبّات الفلسطينية إلى انتفاضة شاملة؟

يرى عبد ربه أن نشوء السلطة الوطنية رافقه تقليص المهام الموكلة لها وتقزيمها لصالح دولة الاحتلال وحماية أمنه، فانعكس ذلك على الهبّات الشعبية.

وأضاف "بينما تولى الاحتلال بطش وقمع الهبات تولت السلطة منع تطورها إلى انتفاضة ثالثة، لأن ذلك يعني زوال مشروع السلطة كمطلب مهم بالنسبة لإسرائيل وأميركا".

المصدر : الجزيرة

إعلان