الكاتب الإيطالي باسوليني: أقسم بالقرآن أن حبي للعرب لا يضاهيه إلا حبي لأمي

أعرب عن أسفه على أن العرب لم يبسطوا نفوذهم على كل أوروبا، وهو الموقف الذي تبناه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه قبله.

باسوليني كان يود لو يقضي بقية حياته في المغرب (الأوروبية)

في حقبة منزوعة القداسة بعمق، أعاد المخرج والكاتب بيير باولو باسوليني قراءة الأسطورة باعتبارها خيالا سياسيا وتوليفا بين الثقافة القديمة والثقافة الحديثة، فوجه نظره منذ منتصف الستينيات، نحو الثقافة العربية، لا لأنها تمثل عالما غير قابل للفساد وبمنأى عن آليات التحديث فقط، بل أيضا لأنها شكلت نوعا من الآخر المطلق، ومعقلا أخلاقيا وجماليا للمضطهدين حول البحر الأبيض المتوسط.

بهذه المقدمة افتتح موقع أوريان 21 (Orient XXI) الفرنسي مقالا للكاتب والمترجم أيوب مزين عن ذلك المخرج الإيطالي الذي افتتن بالثقافة والبلاد العربية، واغتيل سنة 1975 على شاطئ المتوسط بينما كان يخطط أن يستقر بشكل دائم في المغرب.

وأثناء انشغاله بإتمام رواية "النفط" التي يشتبه في أنها سبب اغتياله، اتجه باسوليني نحو آفاق عقلية وشاعرية وسياسية أبعدته تماما عن العالم الروماني المسيحي وعن أوروبا التي يعتبر أنها فقدت الإحساس بالمقدس، وانفصل كذلك عن الأيديولوجيات الراسخة والناشئة كالشيوعية والنسوية وغيرها، كما ابتعد عن نموذج المثقف التقدمي.

أقسم بالقرآن

بعد هزيمة العرب في يونيو/حزيران 1967 على يد إسرائيل، كتب باسوليني "أقسم بالقرآن أنني أحب العرب بقدر ما أحب أمي. أنا أسعى حاليا لشراء منزل في المغرب وأخطط للذهاب والعيش في هذا البلد. ربما لن يقدم أي من أصدقائي الشيوعيين على مثل هذا الفعل بسبب كراهية قديمة ومتجذرة وغير معترف بها للبروليتاريين المضطهدين والفقراء".

إعلان

وحسب الكاتب، يمكن فهم هذا الحلف، الذي أبرمه باسوليني مع العرب مقسما على كتابهم المقدس، على أنه نوع من الحنين إلى طفولته البائسة، متسائلا لماذا لجأ الصبي المضطرب إلى أعداء دانتي؟ ولم جعل عمله السينمائي إشارة أثرية وشبيهة بالحلم إلى الأراضي العربية؟ وما الذي كان يبحث عنه في الحج المأساوي الذي أدى به إلى الموت؟

وعلى عكس ما توحي به بعض دراسات ما بعد الاستعمار، لم يقترب باسوليني من الحكايات والخصوصيات العربية لأنها كانت حقلا بكرا وبمنأى عن أدوات التحديث فقط، بل لأن هذا العالم شكل بالنسبة له الآخر المطلق، أخلاقيا وجماليا وحصنا استثنائيا للمظلومين حول البحر المتوسط، مميّزا بين الأيونيين (اليونانيون) والإغريق، كما فعل العرب من قبله.

وقلص باسوليني المسافة بين العوالم القديمة والحديثة من خلال السينما، وبعثر الأماكن والأزمنة، وتلاعب بخرائط البحر المتوسط ​​شمالا وجنوبا، فجسد القدس في ماتيرا الإيطالية، وأثينا في ورزازات وثيساليا في حلب، وفلورنسا في صنعاء.

وضمن ما يسميه الكاتب بالثلاثية المأساوية العربية اليونانية، سافر باسوليني إلى فلسطين والأردن بحثا عن أماكن لتصوير إنجيل القديس متّى، دون أن يجد ما كان يبحث عنه، حيث غطت المستوطنات الصهيونية ذكرى المسيح وبدأت تمحو آثار القداسة والفقر أيام العهد الجديد.

وبعد سنوات، غادر باسوليني إلى المغرب لإخراج فيلمه "الملك أوديب" وقال في مقابلة إن الفيلم تم تصويره في أعماق المغرب، وهو بلد يتمتع بهندسة معمارية جميلة عمرها ألف عام بدون إنارة في الشوارع، وبالتالي دون متاعب تصوير، حيث الورود والطبيعة الخضراء الرائعة والسكان يتماشون مع أسطورة أوديب بين الإغريق.

ووفقا لباسوليني، لم يعد ترسيخ الأساطير القديمة ممكنا في المشهد الغربي المعاصر الذي لا تتوافق روعة الماضي مع وجهه الرأسمالي الجديد ولا مع لغة شعوبه الغارقة في الموضة، ولا مع حاضرته الخرسانية الباهتة.

إعلان

وفي فيلمه الوثائقي القصير "جدران صنعاء" يكرر باسوليني حركاته ضد الحداثة والتحضر الصناعي، محتفلا بحضارة سحيقة خوفا من زوالها، يقول في تعليقه الصوتي على كواليس صنعاء "لم يعد بإمكاننا إنقاذ إيطاليا، لكن إنقاذ اليمن لا يزال ممكنا. نحث اليونسكو على إنقاذ اليمن والحفاظ عليه من الدمار الذي بدأ في الواقع بجدران صنعاء. نطلب منها أن تساعد الشعب اليمني في الحفاظ على هويته التي لا تقدر بثمن. نطالبها قبل فوات الأوان بإقناع الطبقات الحاكمة بأن ثروة اليمن الوحيدة هي جماله".

تمنى لو انتصر العرب في بواتيه

وفي فلسطين، بدا وكأن باسوليني ممزق بين اثنين من أشكال الفقر، فقر اليهود الذين أرسلتهم الصهيونية ليشكلوا مسخ الدولة العسكرية الأخيرة، وفقر الفلسطينيين المهزومين، بسمات بدوية ذابلة وآذان صماء عن نداء الثورة، يقول مخاطبا اليهودي:

"عد إلى أوروبا الخاصة بك

بوضع نفسي في مكانك

أشعر برغبتك التي لا تشعر بها"

لم يحب باسوليني عرب زمانه، ولم يفضلهم أيديولوجيا على اليهود، ولكنه وجد صلات معهم عبر حضارتهم القديمة البعيدة جدا عن الثورة الصناعية، لهذا دافع عن هذه الحضارة، وقال ذات يوم في بواتييه إنه كان يود انتصار المسلمين في معركة بلاط الشهداء (732 م) على جيوش شارل مارتل، وهكذا أعرب عن أسفه على أن العرب لم يبسطوا نفوذهم على كل أوروبا، وهو الموقف الذي تبناه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.

وحتى أيامه الأخيرة، استمر باسوليني في السعي وراء القداسة بالأسلوب والعدالة في الوجود من خلال الأدب والسينما، ولم يتوقف عن الإشارة إلى عيوب التقدمية ومخاطر الرأسمالية رغم التهديدات، وظل يناقش في مقالات مثيرة للجدل، أوائل السبعينيات، ما وجده في التدهور الأخلاقي بالمجتمع الإيطالي، وهاجم موضة الشعر الطويل والجينز والإجهاض والطلاق، وبقي مخلصا لمادية الواقع في وحشية ضغائنه وشجاره، بعيدا عن المحاولات المعاصرة لاختطافه وجعله رمزا إعلانيا للمثلية الجنسية والفجور الرخيص والإنشاءات الفنية السهلة.

إعلان

واستقر باسوليني في قلعة من القرون الوسطى بمنطقة توشا لإكمال روايته النفط عام 1975، وضمّن النص فصلا بعنوان "أضواء على الوكالة الوطنية للمحروقات (ENI)" تحدث فيه خلف الكواليس عن مقتل مديرها إنريكو ماتي، وسرد أسماء سياسيين متورطين في الفساد، وقد ضاع هذا الفصل بعد مقتله ليلة 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وعُثر عليه مشوها مثل جسد العربي أحمد بعد هزيمة حزيران الذي كان فقد وصفه بفيلم له عن الصراع في فلسطين بأنه وجد مليئا بالجراح والكدمات.

المصدر : أوريان 21

إعلان