أثارت جدلا إقليميا والسر في الغاز.. لماذا قررت مصر منفردة ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا؟

مع كل جدل أو توتر بسبب ترسيم الحدود البحرية، تعلن مصر جاهزية قواتها للدفاع عن مصالحها في البحر الأبيض المتوسط (الفرنسية)

القاهرة- يبدو أن البحر الأبيض المتوسط لن تهدأ عواصفه قريبا. فمنذ الإعلان عن اكتشافات الغاز في شرق المتوسط، تتلاطم أمواج السياسية والاقتصاد بين دول المنطقة، مما أسفر عن جدل متصاعد بشأن ترسيم الحدود البحرية، آخره إعلان مصر ترسيم حدودها البحرية الغربية مع ليبيا، وهو ما أثار جدلا إقليميا.

يكشف هذا الجدل الإقليمي عن تساؤلات حول أسبابه وتداعياته على المصالح الجيوستراتيجية لمصر في إقليم شرق البحر المتوسط الغني بالغاز، إضافة إلى انعكاساته على الملفات السياسية المتشابكة، خاصة المرتبطة بالملف الليبي، ووتيرة التقارب المصري التركي.

فقبل أيام، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارًا -نشرته الجريدة الرسمية- بشأن ترسيم الحدود البحرية الغربية لبلاده في البحر المتوسط، متضمنًا في مادته الأولى أن تبدأ حدود البحر الإقليمي لمصر من نقطة الحدود البرية المصرية الليبية، كما نص على إخطار الأمم المتحدة بالتعديل.

الخطوة المصرية لاقت معارضة من قبل حكومتي ليبيا (الوحدة الوطنية في طرابلس/ والمعينة من البرلمان)، إذ دعت الحكومتان الليبيتان القاهرة إلى عدم اتخاذ خطوات أحادية في ترسيم الحدود البحرية، وأبدتا -في بيانات منفصلة- استعدادهما للتفاوض الثنائي بما يخدم المصالح المشتركة.

وفيما رحّبت اليونان بالخطوة، اكتفت تركيا بدعوة مصر وليبيا إلى إطلاق حوار ومفاوضات بأسرع وقت لتحديد حدود البلدين البحرية، وفق القانون الدولي، ونقلت وكالة الأناضول عن مصادر دبلوماسية أن "الحدود البحرية الجانبية التي حددتها مصر من جانب واحد مع ليبيا بـ9 إحداثيات جغرافية، لا تتداخل مع الجرف القاري لتركيا في شرق البحر المتوسط".

وجاء القرار والاشتباك الإقليمي معه بعد نحو شهرين من اتفاقية وقعتها أنقرة وطرابلس للتنقيب عن النفط والغاز، تعد مكملة لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين أواخر 2019.

ورفضت مصر واليونان هذه الاتفاقيات في ضوء معارضتهما النشاط التركي في المناطق البحرية المتنازع عليها في شرق المتوسط، كما وقعتا في 2020 اتفاقًا مشتركًا لترسيم الحدود البحرية شرقي المتوسط.

وفي هذا الصدد، تسعى الجزيرة نت للإجابة عن تساؤلات طرحتها على خبراء ومحللين، حول دوافع القاهرة من الترسيم المنفرد وتداعياته.

ما دوافع مصر، ولماذا أعلنت الترسيم بشكل منفرد؟

"قمة الرشد"، كلمتان استهل بهما الخبير في العلاقات الدولية والأمن القومي المصري اللواء محمد عبد الواحد حديثه حول دوافع بلاده لإعلان ترسيم الحدود البحرية الغربية بشكل منفرد. وعزا عبد الواحد ذلك إلى:

  • التوقيت البالغ الحساسية الذي يشهد فيه شرق المتوسط توترًا وتسابقًا على الثروات.
  • وقف أطماع أية دولة أجنبية، والمحافظة على حقوق مصر في التنقيب داخل حدودها الإقليمية، طبقًا للقانون الدولي.
  • المنطقة واعدة بكميات ضخمة من احتياطي الغاز في العالم، لم يستغل منها إلا 10%، إضافة إلى مؤشرات تؤكد وجود آبار للغاز تحقق لمصر جزءًا من طموحاتها.
  • السماح للشركات الدولية بالقيام بشكل قانوني بأنشطة بحرية دون تحفظات أو تخوفات.
  • اتخاذ القرار بشكل منفرد يعود إلى تردي الأوضاع في ليبيا، وطول أمد الانقسام السياسي بما يهدد المصالح المصرية.
  • الترسيم يعد امتدادًا للحدود البرية في الشمال الغربي لغاية الحدود الإقليمية لمصر، دون أن يتناول الحدود الاقتصادية، وهو تحديد عادل طبقًا للقانون الدولي.

ما الخطوة التالية بعد قرار الترسيم، وهل يشهد اعترافًا دوليًا؟

يوضح اللواء عبد الواحد أن من المنتظر، بعد مخاطبة الأمم المتحدة للحصول على الشرعية الدولية للترسيم، إجراء عمليات تنقيب بحُرّية كاملة داخل الحدود الإقليمية.

وأوضح أن لمصر إستراتيجية طويلة الأمد قد تصل إلى عام 2040 لتحقيق أهداف معظمها اقتصادية متعلقة بالطاقة، تبدأ مرحلتها الأولى بالاستغناء عن استيراد الطاقة والاعتماد الذاتي، ومن الفائض تصدر إلى أوروبا، وصولا إلى أن تكون مركزًا إقليميًا للطاقة.

ولفت إلى تشجيع الشركات العالمية على الاستكشافات الجديدة لتحقيق أهداف مصر من حفر 45 بئرًا في السنوات الثلاث المقبلة، معظمها في البحر المتوسط. ويعتقد عبد الواحد حصول القرار على الشرعية الدولية، كونه يمثل امتدادًا للخطوط البرية بين مصر وليبيا، ويتوافق مع القانون الدولي.

خطوة منقوصة

متفقًا قليلاً مع الطرح السابق، يرى الأكاديمي والمحلل السياسي المصري محمد الزواوي، أن الترسيم ربما جاء محاولةً لإضفاء شرعية على عمليات الشركات الأجنبية في المناطق الاقتصادية الخالصة لمصر، والتي لا يمكن لها أن تتحرك دون ترسيم قانوني للحدود.

غير أن الزواوي وصف إعلان الترسيم بـ"الخطوة المنقوصة" باعتباره من جانب واحد، وكون القوانين الدولية تنص على أن تتشارك دولتان أو أكثر في عملية ترسيم الحدود.

ويضيف الزواوي أن العملية تظل قابلة للطعن في أي وقت، ولا سيما من الدول غير الموقعة على القانون الدولي للبحار، مستشهدًا بعدم اعتراف تركيا بآلية القانون برمته لترسيم الحدود، ومطالبتها بتعديله، وعدم اعترافها بعمليات الترسيم بين كل من مصر وقبرص ومصر واليونان حتى الآن.

ما علاقته بقضايا الترسيم الشائكة بشرق المتوسط؟

تعقيبًا على ذلك، يوضح الخبير في صناعة النفط والغاز والنقل البحري إبراهيم فهمي، أن ملف ترسيم الحدود البحرية لمصر يأخذ أهميته من المستقبل الواعد لاحتياطيات الغاز في المناطق البحرية الاقتصادية الواقعة في المياه العميقة بين دول الجوار البحري، سواء المتماسة أو المقابلة أو المجاورة (ليبيا وفلسطين وتركيا وقبرص واليونان وإسرائيل)، والتي من الممكن أن تمثل رافدا بديلا للغاز الروسي إلى أوروبا.

وأضاف فهمي أن قضية الترسيم بشرق المتوسط شائكة ومعقدة لأسباب متعددة تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والنفوذ الجيوسياسي وعلاقات الجوار، مشيرًا إلى أن مصر تقع بين محورين واضحين: الأول تمثله إسرائيل وقبرص واليونان، وله أهداف واضحة لاقتناص ترسيم خاطئ للحدود البحرية، يضيع حقوق مصر وليبيا وتركيا.

والثاني، تركيا وليبيا، والذي أعاد لمصر مساحة بحرية تقدر بـ15 ألف كلم مربع، كان من المقرر أن تتركها مصر لصالح اليونان، بما لا يتفق مع المصلحة العليا للبلاد، وفق قوله.

وأضاف فهمي أن هذه المساحة كانت ستستخدم من قبل المحور الأول لتمرير خط أنابيب بحري يصل بالغاز مباشرة إلى الأسواق الأوروبية، دون الحاجة إلى تسييله، والذي يرفع الكلفة والوقت عدة مرات.

وفيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية الغربية لمصر من جانب واحد، يقول فهمي إن هدفه نقطة أساس بحرية غير عادلة لليبيا، وللالتفاف على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، المودعة لدى الأمم المتحدة من كلا الطرفين.

ويعتقد المتحدث أن الحقوق المشروعة لفلسطين وشمال قبرص في غاز المتوسط، إن استقلت الدولتان، ستجعل ترسيمات الحدود بين جميع دول الحوض غير نهائية وخاضعة لإلغائها بالتحكيم الدولي، وبالتالي كل دولة يجب أن تدافع عن مصالحها العليا وليس عن مصلحة دول أو دولة أخرى.

ما رسائل مصر إلى دول جوار شرق المتوسط؟

يشدد الخبير عبد الواحد على أن بلاده تسعى إلى الحفاظ على حقوقها الخاصة بالاقتصاد والطاقة، وفي نفس الوقت لا تغفل الجوانب الجيوسياسية في نطاق الإقليم، أو سرعة مجريات الأحداث في السنوات الأخيرة، مشددا على أن مصر حرصت أثناء تحقيق خططها وأهدافها في ملف الطاقة على عدم التعدي على حدود الدول المشاطئة لشرق المتوسط أو غيرها.

ويشرح ذلك بقوله: يتضح ذلك من خلال ترسيم الحدود البحرية مع قبرص سنة 2013، ومع السعودية في 2016، ومع اليونان في 2020، وتوقيع اتفاقية مع إسرائيل في 2018 لتصدير الغاز الطبيعي إلى مصر ثم إسالته وإعادة تصديره إلى أوروبا، والتوقيع الصيف الماضي على اتفاقية ثلاثية مع إسرائيل والاتحاد الأوروبي لتصدير الغاز الإسرائيلي بعد إسالته في مصر إلى أوروبا المتعطشة بشدة لبدائل الغاز الروسي، وتكثيف التعاون مع قبرص واليونان باعتبارهما بوابتين للغاز إلى أوروبا، وتدشينها مع دول في المنطقة منتدى غاز شرق المتوسط الذي يعد سوقًا إقليمية للطاقة يمكن من خلالها التعاون المشترك.

في المقابل، يضيف الزواوي أن القاهرة بحاجة ماسة إلى النقد الأجنبي في تلك المرحلة، التي تشهد أزمة غير مسبوقة نتيجة الديون الأجنبية وفوائدها المستحقة.

ويتابع أن الترسيم يعكس رغبة مصر في محاولة التسريع من عمل شركات الطاقة الأجنبية لبدء التنقيب، إضافة إلى السير قدمًا بجانب اليونان وقبرص وإسرائيل، دون الوصول لصيغة تفاهم مشتركة مع الحكومة الوطنية الليبية أو تركيا، وفق قوله.

هل يؤثر على التقارب المصري التركي؟

يستبعد اللواء عبد الواحد ذلك، موضحًا أن البلدين قطعا شوطًا طويلاً في عملية التقارب الوشيك، وحتى لو بقيت بعض الملفات الشائكة والعالقة فسيتم تجاوزها وإرجاؤها.

وعن الملف الليبي، أوضح اللواء المصري أن بلاده حريصة على الحل السياسي ودعم شركاء ليبيا للوصول إلى استحقاقات انتخابية وفرض الاستقرار وطرد المرتزقة، خاصة أن الاستقرار في ليبيا ينعكس إيجابًا على الأوضاع في مصر.

أما الزواوي، فيعتقد أن تلك المناسبة كان من الممكن أن تمثل فرصة غير مسبوقة في التعاون وتحسين العلاقات وتحقيق مصلحة مشتركة، ولا سيما أن الترسيم التركي يعطي مصر مزيدا من الأميال البحرية داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة، وفق قوله.

المصدر : الجزيرة