مهاتير محمد.. هل سعى لتقديم نموذج حكم إسلامي في ماليزيا؟ (3)

MALAYSIAN PRIME MINISTER MAHATHIR MOHAMAD AND OIC DELEGATES IN KUALA LUMPUR.
خلال فترة حكمه عمل مهاتير على توثيق الروابط مع المؤسسات والمنظمات الإسلامية الدولية (رويترز- أرشيف)

شكّل الإسلام الهوية القومية لشعب الملايو في ماليزيا، وارتبط الإسلام بالدولة الماليزية ارتباطا وثيقا، إذ نصّ دستورها على أن الإسلام هو "دين الدولة، وأن جميع أبناء العرقية الملايوية هم مسلمون".

نواصل في هذا التقرير من هذه السلسلة الحديث عن رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، وعن حقيقة مساعيه لتقديم نموذج للحكم الإسلامي في بلاد تنوعت أعراقها وثقافاتها ودياناتها.

عرّف الدستور الإنسان الملايوي بأنه "المسلم الذي يتحدث لغة الملايو، ويمارس عاداتهم وتقاليدهم"، وشكل الإسلام الوعاء لثقافة الملايو، وأصبحت ممارسة العبادات والشرائع الإسلامية مثل الصلاة وارتداء الحجاب سلوكا يوميا طبيعيا للغالبية العظمى من مجتمع الملايو.

انطلق مهاتير محمد من هذا المعتقد المتين، ليقول في فصل من مذكراته تحت عنوان "الإسلام والأسلمة" إن "لدينا كل الحق في وصف ماليزيا بأنها دولة إسلامية، وإن الإسلام وأسلمة الإدارة الماليزية لم يكونا محل نزاع من قبل".

ويضيف أنه في الفترة التي تبنت فيها ماليزيا القيم الاسلامية وأعلنت أنها دولة إسلامية، ساد السلام والاستقرار وتطورت البلاد ونمت على نحو لم يسبق له مثيل.

جوهر الإسلام

لكن هذا الوصف اكتسب في فكر مهاتير بعدا قِيميا وليس تشريعيا، وغلب عليه الاهتمام بجوهر الإسلام ومضمونه ومنظومة قِيَمه الأخلاقية والثقافية، مع استيعاب واسع لتركيبة المجتمع الماليزي الذي يدين أكثر من ثلث سكانه بغير الإسلام.

يفرد مهاتير فصلا كاملا في مذكراته للحديث عن نشأته كإنسان مسلم في مجتمع مسلم، فترة امتحن فيها قلبه بالشك والارتباك بشأن الإسلام وتعاليمه، لكنها كانت مقدمة -كما يصف- لإيمان عميق أدرك من خلاله سمو هذا الدين وعظمته.

وعرض خلال هذا الفصل بشكل دقيق تفاصيل حياة المجتمع الماليزي وارتباطه بتعاليم الدين، لكنه في الوقت ذاته استرسل في الحديث عن فهمه الخاص للإسلام وواقع المسلمين.

واعتبر أن "الوضع البائس" الذي يعيشه المسلمون اليوم راجع جزئيا إلى عدم قيامهم بشيء، أو قيامهم بشيء ضئيل للغاية، ويشدد على أن الأمة مطلوب منها أن تبذل كل جهدها في مساعدة نفسها، ثم بعد ذلك تلجأ بالدعاء إلى الله تعالى بالنصر والتمكين والعون.

لم يقدم رئيس الوزراء الماليزي الأسبق في أدبياته أو خلال ممارسته للحكم، مشروعا للحكم الإسلامي في مفهومه المباشر، وإنما اهتم بتفعيل منظومة قيم الإسلام وأخلاقه وركز على مفاهيمه الإستراتيجية، وكيف يمكن تطبيقها كواقع في حياة مجتمع متعدد الأعراق والديانات، مع وعي كامل للظروف الإقليمية والاتجاهات السياسية العالمية.

MALAYSIAN PRIME MINISTER MAHATHIR MOHAMAD IS GREETED AS HE ARRIVES TO LAUNCH HONDA'S NEW ...
تفعيل منظومة القيم الإسلامية كان هاجس مهاتير خلال فترة حكمه (رويترز)

أعراق متعددة

عملت بريطانيا خلال فترة استعمار ماليزيا على العبث بالتركيبة الديموغرافية للبلاد التي كانت غالبيتها العظمى من المسلمين، وجلب الاستعمار جاليات من الصين والهند وبأعداد ضخمة للعمل في ماليزيا.

ومع الاستقلال عام 1957 وُجِد أن المجتمع الماليزي بات يتشكل من 3 عرقيات أساسية، الملايو المسلمون وكانت نسبتهم تتجاوز 55% من السكان، بينما شكل الصينيون أكثر من 30%، وبقية المجتمع كان من الهنود الذين جلب غالبيتهم من ولاية تاميل نادو جنوبي الهند.

كان على قادة الملايو المسلمين في تلك الفترة أن يستوعبوا شكل مجتمعهم الجديد لدولتهم الناشئة، فشكلوا نظاما سياسيا يرتكز على التعاون بين الأعراق المختلفة في البلاد، ونص فيه الدستور على أن دين الدولة الإسلام، لكن ذلك بطبيعة الحال لا يعني تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، إلا في الأحوال الشخصية للمسلمين كما هو الحال في باقي الدول العربية والإسلامية.

رفض الحزب الإسلامي الماليزي "باس" (PAS) هذا الشكل من نظام الحكم، وطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية، لكنه لم ينجح في فرض رؤيته على الدولة، وحتى في الولايات التي سمح له النظام السياسي الفدرالي بحكمها بعد أن فاز بالانتخابات كولايتي تيرينغانو وكيلانتان، لم يستطع الحزب تمرير رؤيته، لأن الحكومة الفدرالية عملت على إفشالها.

وبقي الحزب في صفوف المعارضة، ولم يشارك في الحكومة إلا في فترات محدودة، ونتيجة لظروف سياسية عاصفة تمكن الحزب خلالها من تحقيق بعض النجاحات نحو تطبيق الشريعة ومرر بعض الأحكام، كمنع إعلانات الخمور وزيادة عدد المدارس الإسلامية، وغيرها.

MALAYSIAN PRIME MINISTER MAHATHIR MOHAMAD TO PRESENT BUDGET 2003.
في عهد مهاتير توسعت الحكومة في إنشاء البنوك والشركات الإسلامية (رويترز)

نموذج جديد

ومع قدومه للحكم عام 1981، سعى مهاتير إلى تقديم نموذج يقوم على أساس تعزيز القيم الإسلامية ودمجها في الحياة العامة، كما سعى إلى توثيق الروابط مع المؤسسات والمنظمات الإسلامية الدولية، التي أقامت عددا من المشاريع التعليمية والاقتصادية الثقافية في ماليزيا.

وخلال فترة حكمه، توسعت الحكومة في إنشاء البنوك والشركات الإسلامية، ونشطت الولايات المختلفة في بناء المدارس الدينية، وسن البرلمان كثيرا من القوانين التي تتوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية.

لكن ومع كل هذا، فقد كرر الزعيم الماليزي أن حكومته لا تطبق ما تنص عليه الشريعة في كل حالة، لكنها تتبع تعاليم الإسلام من خلال دفاعها عن توفير العدالة للجميع في هذا البلد المتعدد الأديان، ومن خلال إبقائه بعيدا عن الصراع وانعدام الأمن.

بل في المقابل، عبر مرارا عن خيبة أمله من بعض التفسيرات التي كان يقدمها بعض العلماء لأحكام الدين، خصوصا فيما يتعلق بتحكيم الشرع وعدم التساهل في تطبيق الحدود.

وكان يرى أنهم متحمسون لفرض القوانين الإسلامية على غير المسلمين "بالقوة إذا أمكن، وهذا لا يحبب الإسلام إلى غيرهم"، ويقول إن ذلك قاده -مع انخراطه في العمل السياسي- لدراسة الدين وفهم نصوصه من أجل التصدي لهذه الأفكار التي كانت تطرح على نطاق واسع.

مكانة المسلمين

ركز مهاتير فكره ومشروعه على ضرورة أن يستعيد المسلمون مكانتهم، وقال في أكثر من مناسبة إن عليهم أن "يدركوا حقيقة الوضع الذي هم فيه في ضوء ما استحدثته المجتمعات البشرية المتطورة من أفكار تجديدية، وتقنيات حديثة ما زالت الأمة غير مهيأة لاستيعابها وعاجزة تماما عن التعامل معها".

وتحدث عن الإمكانات التي تملكها الأمة، واعتبر أن ذلك يصب في مصلحة مستقبل أكثر تفاؤلا وطموحا، إن أحسن المسلمون رصد وتفعيل الأصول والموجودات ومقومات القوة الحقيقية التي يملكونها.

وهو ينظر إلى عالم إسلامي زاخر بالمهارات العالية والعقول النادرة، لكن على الحكومات والدول توفير البيئة الملائمة التي تغري العلماء بالاستقرار أو العودة إلى بلدانهم حتى تستفيد الأمة من خبراتهم في "إعادة البناء واللحاق بركب الدول المتقدمة".

المصدر : الجزيرة