الفساد يستنزف العراق.. ما حجمه وما دور الحكومة في محاربته؟
الفساد وحش متعدد الرؤوس، قد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورا عميقة في العراق، ولا يمكن السيطرة عليه -فضلا عن اقتلاع جذوره- إذا لم تكن هناك إرادة سياسية وإجماع على ذلك، إذ لا يزال الفساد مستشريا ومنهكا وواسع الانتشار.
قالت مندوبة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت الأسبوع الماضي إن الطبقة السياسية والحاكمة في بغداد فشلت حتى الآن في وضع المصلحة الوطنية فوق أي شيء آخر، وجاءت تصريحات المسؤولة الأممية أمام مجلس الأمن الدولي في اجتماعه الدوري لمناقشة الوضع في العراق.
وشددت بلاسخارت على أن "الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي في العراق، وهو جزء من المعاملات اليومية، ولست أنا من يقول هذا فقط، إن ذلك أمر معترف به". كما تحدثت عن قطاع حكومي غير فاعل متضخم يخدم الساسة لا الناس، وقالت: "إن المصالح الحزبية والخاصة تُبعد الموارد عن استثمارات مهمة في التنمية الوطنية".
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل بعثة الأمم المتحدة مفروضة على العراق أم أنها خيار؟
واشنطن بوست: رغم إغلاق البرلمان.. النخبة المتناحرة في العراق لم تتحرك لنزع فتيل الأزمة
كشف عن مبادرة لمناظرة علنية.. الصدر يعلن لاءاته بشأن حلّ الأزمة في العراق
ويشهد العراق منذ 2003 وضعا اقتصاديا متقلبا، ولا سيما مع اعتماده بنسبة تزيد على 94% في موازناته العامة على مبيعات النفط، ورغم أن موازناته شهدت طفرة متزايدة منذ الغزو الأميركي للبلاد، فإن هذه الموازنات المليارية لم تنعكس إيجابا على الوضع العام في البلاد.
Briefing (As Delivered) by the Special Representative of the UN Secretary-General for Iraq and head of the UN Assistance Mission for Iraq, @JeanineHennis , at the 9145th meeting of the United Nations Security Council on the situation concerning #Iraqhttps://t.co/G74BvuPNLU
— UNAMI (@UNIraq) October 4, 2022
مؤشرات الفساد
يصنف العراق ضمن الدول الأكثر فسادا في العالم، إذ احتل المرتبة 157 عالميا بين 180 دولة ضمن مؤشرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية العام الماضي 2021، مما يؤكد أن البلاد تعاني من مشكلة متفاقمة دون أن تحدد المنظمة أرقاما دقيقة لحجم الفساد في البلاد.
ولا ينكر المسؤولون العراقيون وجود فساد مستشر في الدولة، إذ إن رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي كان قد كشف في سبتمبر/أيلول 2014 عن وجود نحو 50 ألف موظف وجندي في وزارة الدفاع العراقية يتلقون رواتبهم دون أن يكون لهم وجود على أرض الواقع، أما في أغسطس/آب 2015 فكشف عادل عبد المهدي الذي كان يشغل حينها منصب وزير النفط أن الموازنات العراقية منذ 2003 ولغاية 2015 بلغت 850 ملیار دولار، وأن الفساد في العراق أهدر 450 ملیار دولار، مضيفا أن استغلال المناصب من جانب المسؤولين لمصالح خاصة كلف الدولة 25 ملیار دولار.
وفي سبتمبر/أيلول 2021، كشف رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح -في مقابلة متلفزة- أن أموال العراق المتأتية من النفط منذ 2003 تصل لنحو ألف مليار دولار، لافتا إلى أن التقديرات تشير إلى أن الأموال المنهوبة من العراق إلى الخارج تقدر بنحو 150 مليار دولار، مشددا على أن العراق يعمل على استعادتها من خلال مطالبته العالم بتشكيل تحالف دولي لمكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة.
حجم الفساد
وتعليقا على ما أدلت به ممثلة الأمم المتحدة بالعراق حول الفساد السياسي الاقتصادي، يقول الخبير الاقتصادي العراقي مظهر محمد صالح إن جميع الكلام الذي تحدثت به بلاسخارت معروف لدى العراقيين، عازيا الفساد الاقتصادي السياسي إلى تركيبة النظام السياسي التي تعتمد المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومات.
وتابع صالح أن المحاصصة المعتمدة في البلاد تتطلب تنازلات من قبل الجميع في سبيل استمرار العملية السياسية بما يحمل الدولة تكاليف باهظة. ويضرب صالح مثالا على الفساد السياسي الاقتصادي في البلاد بالحصول على الجوازات الدبلوماسية التي وصل عددها إلى نحو 25 ألف جواز دبلوماسي، بحسبه.
المحاصصة بددت الثروات
وفي حديثه للجزيرة نت، أكد صالح أن المحاصصة بددت الثروات العراقية من خلال الطبيعية الريعية للدولة التي أدت تركيبة النظام إلى تبديدها خلال السنوات الماضية. ولم يحدد حجم الفساد في البلاد بسبب تنوع أبواب الفساد، ما بين الفساد المالي المباشر والرشى والسرقات، وصولا إلى الفساد الإداري الذي يبدد الأموال، بحسب تعبيره.
أما أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية ببغداد عبد الرحمن المشهداني، فيرى أنه لا توجد أرقام دقيقة، غير أن المعادلات الاقتصادية تكشف شيئا من الحقيقة، ولا سيما الفساد المتعلق بتهريب الأموال إلى الخارج دون إمكانية تحديد حجم الفساد الداخلي الذي يستثمر الأموال في الداخل العراقي.
تضارب الأرقام
وعن حجم الأموال المهربة، يتحدث المشهداني للجزيرة نت عن أن تصريحات برهم صالح في حصر حجم الأموال المهربة بـ150 مليار دولار غير دقيقة، لافتا إلى أنه يعتقد أن حجم الأموال المهربة تتراوح بين 350 و600 مليار دولار للفترة من عام 2006 ولغاية عام 2018، وأن السنوات اللاحقة سجلت العديد من ملفات الفساد دون إمكانية تحديد حجمها، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن مزاد بيع الدولار في البنك المركزي العراقي لا يزال مستمرا، وسط اتهامات مسؤولين حكوميين بتهريب العملة الصعبة خارج البلاد.
ويفصّل المشهداني تلك الأرقام ليؤكد أنها ناتجة عن مشاريع وهمية ومتلكئة، حيث إن الحكومة كانت قد صرفت أموال تلك المشاريع دون وجود لها على أرض الواقع. ويضيف أن الفترة بين عامي 2006 و2014 شهدت صرف المليارات من الدولات على 6 آلاف مشروع لم تنفذ، حيث إن سياسة الحكومة آنذاك كانت تصرف تكلفة المشاريع لحظة توقيع العقود، دون اعتماد نظام السلف النسبية التي تعطى للمقاولين وفق نسبة إنجاز كل مشروع.
ويعدد المشهداني 3 أنواع من الفساد السياسي الاقتصادي، إذ إن بعض الكتل السياسية تعتمد على المكاتب الاقتصادية التي تفرض على الوزارات التابعة للكتل، ومن خلالها تعمد هذه المكاتب لاستحصال نسب كبيرة من المشاريع المحالة من قبل الدولة.
أما عن النوع الثاني، بحسب المشهداني، فيكون من خلال مكاتب الوزارات والمديرين العامين في الوزارات والمؤسسات الحكومية، وهو ما يجعل من جميع الكتل السياسية متهمة بالضلوع في الفساد، كما أن جميع الكتل السياسية تقر بأن الفساد مستشر في البلاد. مختتما حديثه بالإشارة إلى نوع ثالث من الفساد السياسي الاقتصادي، ويتمثل في الأموال التي تدفع للكتل السياسية مقابل تنصيب الوزراء والمديرين العامين والمسؤولين من ذوي الدرجات العليا، مقابل وعود بالحصول على العقود الحكومية، بحسب تعبيره.
توقف الاستثمارات
من جانبه، وصف عضو اللجنة المالية البرلمانية جمال كوجر أن ما تحدثت به بلاسخارت أمام مجلس الأمن "غيض من فيض"، مشيرا إلى أن حجم الفساد المالي في البلاد ينخر جميع مفاصل الأحزاب السياسية دون استثناء، معتبرا أن الصراع السياسي الحالي لا يخرج عن كونه محاولة للسيطرة على مقدرات البلاد والمناصب الحكومية.
وفي حديثه للجزيرة نت، شبّه كوجر الفساد بـ"السرطان" الذي لا يمكن السيطرة عليه، وذكر أن موازنة عام 2021 التي بلغت نحو 100 مليار دولار لم تنعكس بأي شكل على الوضع الاقتصادي، لافتا إلى أن من أبرز وجوه الفساد السياسي الاقتصادي: تعمد إيقاف الاستثمارات في الموارد الطبيعية والبشرية، وأن إيقاف هذه المشاريع لا يقف عند مصالح الأحزاب ذاتها بل يمتد لمصالح دول إقليمية.
ويستطرد كوجر في حديثه متسائلا عن الأسباب التي حالت حتى الآن دون استثمار الغاز المصاحب لعمليات الاستخراج النفطي، والذي يحرق في الهواء رغم حاجة البلاد الماسة لاستثماره في توليد الطاقة الكهربائية بدل استيراده من دول أخرى بمليارات الدولارات سنويا، إضافة إلى عدم استثمار أكبر حقلي غاز في البلاد، وهما المنصورية في ديالى (شرق) وعكاز في الأنبار (غرب).
ويتساءل كوجر في ختام حديثه عن مصير أكثر من 3 آلاف مدرسة كانت الحكومة العراقية قد خصصت أموالا لإنشائها عام 2010، إلا أنه بعد 12 عاما من ذلك لم ينفّذ منها سوى 300 مدرسة.
إقرار ومحاولة الإصلاح
وتقرّ الحكومة العراقية بوجود الفساد في مؤسساتها، وكانت وثيقة استقالة وزير المالية العراقي علي علاوي في أغسطس/آب الماضي قد كشفت عن بعض ذلك، إذ جاء في نصها "نجحت الحكومة في وضع إستراتيجية جريئة للإصلاح الاقتصادي والإداري، ومع ذلك، فإن الإستراتيجية لم تحقق الأثر المنشود بعد في وقف الانحدار في القدرات الإدارية وفعالية القطاع العام أو في تغيير المحاور الاقتصادية للبلد بشكل جذري".
وأضاف "لم تنجح الحكومة في ضبط الفساد ثم الحد منه. الفساد وحش متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورا عميقة في البلاد، لا يمكن السيطرة عليه -فضلا عن اقتلاع جذوره- إذا لم تكن هناك إرادة سياسية وإجماع على القيام بذلك، إذ لا يزال الفساد مستشريا ومنهكا وواسع الانتشار".
ورغم الصورة السوداوية للوضع العراقي، فإن المؤسسات الحكومية المعنية بمكافحة الفساد تواصل عملها وتكشف عن الأرقام التي حققتها. إذ كشفت رئيسة هيئة الاستثمار الوطنية سهى النجار قبل أشهر عن استعادة أكثر من 400 ألف دونم من أراضي الدولة، كانت محجوزة تحت مظلة المشاريع الاستثمارية الوهمية وغير المنجزة، حيث قدرت -في حديث صحفي- قيمة الأراضي المستعادة بنحو 62 مليار دولار.
أما هيئة النزاهة الاتحادية فقد أعلنت في تقريرها السنوي لعام 2021 عن تورط أكثر من 11 ألف مسؤول حكومي في قضايا فساد، من بينهم 54 وزيرا. وأضافت الهيئة (التي ترتبط بالبرلمان) أن جميع هؤلاء متهمون بقضايا فساد (لم تحدد طبيعتها) وأن الهيئة وجهت إليهم أكثر من 15 ألف تهمة.
وخلص التقرير الصادر عن الهيئة إلى أن التحقيقات أسفرت عن إصدار 632 حكم إدانة لهؤلاء، من بينها حكم واحد بحق وزير، و42 حكما بحق 23 من ذوي الدرجات الخاصة والمديرين العامين ومن هم بدرجتهم، مع استمرار التحقيق في بقية القضايا.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، برزت ملفات محاربة الفساد على رأس مطالب المظاهرات التي اجتاحت المدن العراقية في بلد يعتبر تفشي الفساد فيه من الأكثر في العالم.