"كوماندوز السكاكين" والعكاري وأبو شخيدم.. خط المقاومين لا يتوقف من مخيم شعفاط
القدس المحتلة- في ديسمبر/كانون الأول 2015 اقتحم مخيم شعفاط شمال شرق مدينة القدس المحتلة 1200 جندي إسرائيلي وعشرات الآليات العسكرية لهدم منزل إبراهيم العكاري، منفذ عملية دهس بالقدس المحتلة. وبعد عملية الهدم، أجرى صحفي إسرائيلي من التلفزيون الإسرائيلي لقاء مع أطفال العكاري، كان جزءا منه الحوار التالي:
المراسل: هل هناك من انتقد العملية التي قام بها والدك؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsمشاهد الانتفاضة تعود.. اعتقالات وعصيان مدني وحصار مستمر على نابلس وشعفاط
حمزة (كان حينها يبلغ 12 عاما): لا ولن يكون.. أنا أؤكد لك ذلك.
المراسل: ولكنه دهس الناس في الشارع؟
حمزة: هم محتلون، فماذا كانوا يفعلون في فلسطين، هم قدموا لفلسطين واحتلوا أرضنا.. الهدم سياسة تافهة ولن تؤثر فينا.
هنا تدخل أنس (11 عاما) موجها حديثه للصحفي الإسرائيلي: إما نحن أو أنتم في البلاد، ولن يقبل الشعب الفلسطيني إلا أن تخرجوا من بلادنا.
المراسل: ما بصير نعيش سوى (ألا يمكن أن نعيش معا)؟
أنس: لا.
ما قاله أطفال العكاري -الذين ولدوا وكبروا في المخيم- لخّص علاقة مخيم شعفاط وسكانه مع الاحتلال، بتاريخ مقاومة ممتد منذ إنشاء المخيم وحتى 8 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عندما نفذ أحد شبان المخيم عملية إطلاق نار على الجنود على الحاجز القريب من مسافة صفر وقتل مجندة.
المخيم.. البداية
وبالعودة إلى البدايات، فقط كان تأسيس مخيم شعفاط متأخرا 17 عاما عن النكبة التي خرج خلالها سكانه من مدنهم وقراهم الأصلية، بموجب اتفاق بين الحكومة الأردنية -التي كانت تحكم الضفة الغربية والشق الشرقي من القدس- ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) لحل مشكلة ازدحام اللاجئين بحارة الشرفا بالبلدة القديمة.
عام 1966، افتتح المخيم بـ800 وحدة سكنية مرفقة بخدمات مشتركة على مساحة لم تتجاوز 203 دونمات. ولكن قليلا من العائلات اللاجئة التي انتقلت للسكن فيه. ومع سيطرة إسرائيل على ما تبقى من القدس بعد هزيمة 1967 أجبر الاحتلال معظم من تبقى من اللاجئين على الانتقال للمخيم بالقوة، وهو ما ضاعف أعداد ساكنيه.
يقول رئيس اللجنة الشعبية لمخيم شعفاط محمود الشيخ إن "معظم سكان المخيم تم إحصاؤهم في تلك الفترة في مدينة القدس وحملوا البطاقة المقدسية".
ويذكر الأهالي الشهيد الفتى عبد الله حواس والذي استشهد خلال مشاركته في تظاهرة بالقرب من مخيم قلنديا القريب، يوم الأرض 1976، كواحد من أقدم الأسماء المخلّدة في ذاكرتهم عن مقاومي المخيم.
وقد لا يكون حواس الشهيد الأول في المخيم، لكن منذ استشهاده في عام 1976 وحتى هذا العام، تجاوز عدد شهداء المخيم 70 شهيدًا، كما يقول الشيخ للجزيرة نت، وخرج من هذا المكان من قاموا بتنفيذ عمليات نوعية أوجعت الاحتلال.
لحظة تنفيذ عملية شعفاط يوم امس من مسافة الصفر ما ادى لمقتل مجندة واصابة جندي بجراح خطيرة. pic.twitter.com/S5LDZRmhPT
— Hisham Abu Shaqrah هشام أبو شقرة (@HShaqrah) October 9, 2022
الانتفاضة الأولى والمقاومة المنظمة
بداية تبلور الحالة النضالية في المخيم هي الانتفاضة الأولى، كما يقول الناشط المجتمعي في المخيم نصري غنايم للجزيرة نت، وكانت جزءا من الحالة النضالية العامة في القدس وأحيائها ومحيطها، وتمثلت بتنظيم مسيرات يومية من داخل المخيم إلى مستوطنة "بسغات زئيف"، ما تلبث أن تتحول إلى مواجهات تستمر لساعات طويلة.
يذكر غنايم تشكيل لجان تنظيمية كانت تعمل على تنظيم الحياة اليومية لأهالي المخيم، من حيث فرض الإضراب التجاري العام، ومنع إضاءة الشوارع ليلا لتسهيل حركة "المجموعات الضاربة" والتي كانت تقوم بالكتابة على الجدران ورشق الحجارة وإصدار البيانات العامة.
وخلال الانتفاضة الأولى كان النضال المنظم يقتصر على فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدا حركة فتح، حتى بداية التسعينيات، حيث بدأ تنظيم خلايا عسكرية تابعة للتنظيمات الإسلامية.
أبرز هذه الخلايا هي "خلية عناتا" والتي اعتقل أفرادها عام 1993، وتشكلت من محمود عيسى من بلدة عناتا الملاصقة للمخيم وماجد أبو قطيش وموسى عكاري من أبناء المخيم. ووصفت بأنها أول خلية عسكرية تابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالقدس. ونفذت عمليات نوعية.
ففي عام 1992 اختطفت ضابطا بالجيش الإسرائيلي بالقرب من مدينة اللد وطالبت بمبادلته بمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين المعتقل آنذاك، لكن الاحتلال رفض فقامت بقتل الضابط. وعلى خلفية ذلك أبعد الاحتلال 400 من كوادر حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى لبنان.
تابعت الخلية عملياتها عام 1993 ونفذت عملية دهس استهدفت جنديا بمدينة الخضيرة، وعملية قتل شرطيين إسرائيليين باللد والاستيلاء على مسدسيهما، وعملية إطلاق نار وإصابة ضابط في الرملة.
وفي الفترة نفسها نفذت خلية قادها اثنان من أبناء المخيم هما جمعة إسماعيل الكيالي ومحمود دعاجنة، عملية قتل جندي بالقرب من حاجز رأس شحادة القريب من المخيم، وقتل مستوطنة بالقرب من تل أبيب، قبل اعتقالهما بنفس العام والحكم عليهما بالسجن المؤبد.
الانتفاضة الثانية
نقطة التحول في العمل المقاوم المنظم كانت في الانتفاضة الثانية والتي تزامنت مع اتضاح ملامح الخطط الإسرائيلية لفصل الأحياء المقدسية عن مدينة القدس ومن بينها المخيم. وكان المشهد الأبرز هو استحداث الحاجز الذي تحول لنقطة مواجهة دائمة، وبدء بناء الجدار العازل.
وخلال الفترة الأولى من الانتفاضة اتخذت المواجهة شكل الهبات وردود الفعل على ما يجري في مدن الضفة وقطاع غزة وداخل القدس. وفيما بعد نفّذ مقاومون من المخيم عددا من العمليات، أبرزها عملية "سامر الأطرش" والذي شارك بتفجير حافلة إسرائيلية بالتلة الفرنسية في القدس المحتلة، قتل خلالها 6 مستوطنين وجرح 20 آخرون.
وفي عام 2008 كانت العمليات التي نفذها محمد خليل أبو سنينة والتي وصفتها إسرائيل بأنها الأجرأ في مدينة القدس، حيث قام أبو سنينة بإطلاق النار على جندي من مسافة صفر على حاجز شعفاط، قبل أن ينسحب وينفّذ عملية جديدة بعد يومين عند باب الأسباط، أدت لمقتل جندي وإصابة آخرين. اعتقل أبو سنينة وشاب آخر من المخيم على إثر هذه العمليات، وحكم عليه بالسجن المؤبد مرتين و40 عاما.
أبو خضير وهبة القدس
في يوليو/تموز 2014، شكلت حادثة اختطاف المستوطنين للطفل محمد أبو خضير وحرقه حتى الموت محطة تجدد المقاومة والعمليات في المخيم. وعلى مدار أيام اشتعل الحاجز بالمواجهات وضرب الزجاجات الحارقة وإطلاق النار وتعطيل للقطار الخفيف الذي يمر بالقرب من المخيم.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2014، نفّذ ابن المخيم إبراهيم العكاري عملية طعن ودهس مزدوجة قرب محطة القطار الخفيف بالقدس، قتل خلالها جندي ومستوطن وجرح 18 آخرون.
استشهاد العكاري ومحاولات اقتحام المخيم لهدم منزله خلق حالة مقاومة جماعية، وعلى مدار أشهر عجز الاحتلال عن هدم المنزل بسبب قوة المواجهة.
ومع انطلاق هبة القدس في سبتمبر/أيلول 2015 بدأت سلسلة من العمليات نفذها أبناء المخيم، أولها كان الاشتباك المسلح الذي خاضه الشهيد أحمد صلاح على الحاجز، وأدى إلى إصابة جندي إسرائيلي.
وفي نفس الشهر كانت عملية الطعن الأشهر خلال هذه الهبة والتي نفذها الشهيد محمد سعيد علي في باب العامود وأصيب خلالها جنديان إسرائيليان. هذه العملية كان لها أثرها ليس فقط في المخيم بل في كل أنحاء القدس والضفة. واشتهر الشهيد في صفوف الفلسطينيين بلقب "كوماندوز السكاكين".
ثم كانت عملية الطعن التي نفذها الفتى صبحي أبو خليفة بالقرب من التلة الفرنسية بالقدس المحتلة، وأصيب خلالها مستوطن، اعتقل بعدها أبو خليفة وحكم عليه بالسجن 18 عاما.
المواجهة المستمرة مع الاحتلال في تلك الفترة، دفعت أطفالا في المخيم لتنفيذ عمليات أيضا، وتمثل الحدث الأبرز بتنفيذ الطفلين معاوية (14 عاما) وعلي علقم (11 عاما) عملية طعن مستوطن داخل القطار الخفيف بالقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وصية الشهيد الشيخ فادي أبو شخيدم رحمه الله.
الهدف الفوز بالجنة.
"الحياة قصيرة وأفلح من جعلها لله، واستطاع أن يضحي بنفسه لله". pic.twitter.com/uExxCsKC2p— ساري عرابي (@sariorabi) November 22, 2021
المعاناة ولدت وعيا مقاوما
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عاد اسم المخيم ليتصدر بعد تنفيذ فادي أبو شخيدم عمليته النوعية، فقد تنكر أبو شخيدم (42 عاما) بثياب اليهود المتدينين ووصل إلى منطقة باب السلسلة وهناك أطلق النار لأكثر من نصف دقيقة من سلاح من نوع "كارلو"، وقتل مستوطنا وجرح 3 آخرين.
أبو شخيدم كان طالب علم وحاملا لشهادة ماجستير بالدعوة الإسلامية وأصول الدين، وقال في وصيته التي نشرتها عائلته بعد استشهاده بأيام "وما كانت سنوات عمري السابقة إلا إعدادا واستعدادا إيمانيا وعسكريا لهذه اللحظة المباركة".
يقول الباحث في شؤون القدس محمد جاد الله، إن تجدد المقاومة في المخيم مع كل مواجهة تشهدها الأراضي المحتلة كل حين، جعله محط تركيز من الاحتلال الإسرائيلي الذي حاول الالتفاف على مقاومته من خلال عمليات ممنهجة تستهدف "كي الوعي الوطني" (تشويهه) لدى الجيل الجديد من أبناء المخيم، وإشغاله عن الانخراط في القضايا الوطنية.
وتابع للجزيرة نت "شهدنا محاولات متواصلة لتشويه المخيم من خلال تسهيل انتشار المخدرات وضرب المجتمع من الداخل، لكن المخيم يثبت في كل مرة أن إسرائيل فشلت في مسعاها، والحس الوطني والقدرة غير المحدودة على التضحية مترسخة بين أبنائه".
واعتبر جاد الله أن كل ما يقوم به الاحتلال هو انتقام من المخيم كونه جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية المقاومة، ولكن هذا الانتقام والمعاناة التي يشعر بها أبناء المخيم هي التي "ولدت وعيا نضاليا لا يمكن أن يتوقف إلا بهزيمة الاحتلال".