بعضهم خالف الأوامر وعوقب.. من سِير "المتمردين" العسكريين بالسلطة الفلسطينية المنخرطين في المقاومة

نابلس- في هجومه العسكري الأخير على مخيم جنين يوم 28 سبتمبر/أيلول الماضي، قال جيش الاحتلال إن انسحابه بعد اغتيال المقاومين عبد الرحمن خازم ومحمود الونَّة كان صعبا، وإن "اللدغة السريعة" (اسم العملية) لم تكن بسيطة، فبينما استغرق الحدث 20 دقيقة، تطلب الخروج أكثر من 3 ساعات بفعل المقاومة الشرسة.
كان أحمد علاونة، الضابط في جهاز الاستخبارات العسكرية الفلسطيني، أحد المقاومين الذين أطلقوا رصاصهم صوب جنود الاحتلال وآلياته العسكرية خلال العملية. وأظهر مقطع فيديو علاونة يتقدم ليطلق ذخيرته الحية قبل أن تقنصه رصاصة إسرائيلية في رأسه فيستشهد.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsتعرض لكمين واعتداء من أمن السلطة الفلسطينية.. اعتقال مصعب اشتيه يصب في مصلحة من؟
فدائيا “الجلمة” جمعتهما القرابة والصداقة منذ الصغر.. هكذا تخفيا قرب جنود الاحتلال لساعتين قبل الهجوم
أزمة تنذر بعودة الصراع لحقبة النكبة.. هل تخشى إسرائيل انهيار السلطة الفلسطينية؟
وبين استشهاد علاونة واشتباك رفيقه، وابن جهازه الأمني أيضا أحمد عابد، أسبوعان فقط. إذ نفَّذ الأخير وقريبه عبد الرحمن عابد هجوما مسلحا على حاجز الجلمة شمالي جنين، وقتلا ضابطا إسرائيليا.
وحملت العملية طابع التخطيط العسكري، إذ استدرج عابد ورفيقه الجنود لنقطة خارج الحاجز المحصن بالسواتر الحجرية والكاميرات، ثم باغتهم بإطلاق النار.
الضابط المتمرد
قبل استشهاده، كان الضابط علاونة "يُعرف بتمرده على الضوابط والأوامر العسكرية التي يعمل في ظلها منذ 4 سنوات، وخصوصا حين يتعلق الأمر بالاحتلال" كما يقول شقيقه نظمي.
وقبل 1.5 عام انخرط علاونة بالمقاومة المسلحة، وبدأ بمواجهة الاحتلال ومستوطنيه الذين تصدى لهم حين اقتحموا مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، فعاقبته الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بالحبس نحو 50 يوما لدى جهازه العسكري لمخالفته الأوامر. لكنه واصل اشتباكه مع جنود الاحتلال بمدينة جنين وبغير مكان حيث استُهدف وحوصر أكثر من مرة.
يقول شقيقه "بالكاد خلا اشتباك واحد خلال اقتحام الاحتلال لمدينة جنين ومخيمها من مشاركة أحمد، بل كان يطاردهم عبر دراجته النارية حاملا بندقيته الخاصة التي ابتاعها من ماله".
وحسب شقيقه، تأثر علاونة باستشهاد رفاقه بالسلك العسكري عابد وقبله أدهم عليوي وتيسير عيسة" اللذين استشهدا في اشتباك مع قوة خاصة إسرائيلية تسللت قرب مقرهما الأمني مطلع يونيو/حزيران 2021.
وبسبب نشاطه ضد الاحتلال، نُقل علاونة من مكان عمله أكثر من مرة "وتحولت مهمته العسكرية للعمل الإداري والخدماتي، ولم يعد يوكل إليه حمل السلاح، خشية استخدامه بما يُحرج السلطة" كما أضاف شقيق المقرب منه.
أبو جندل الجديد
الآونة الأخيرة، تغيَّب علاونة عن دوامه كثيرا، وكان يبدل مناوباته مع زملائه، وأحيانا يختلق الذرائع ليعود إلى جنين ويواجه اقتحامات الاحتلال، ويوم استشهاده كان عليه أن يلتحق بوظيفته لكنه لم يذهب وآثر المواجهة.
وحسب المقربين منه، استخدم علاونة خبرته وتدريبه العسكري لخدمة المقاومين الذين كانوا يسترشدون به وبعمله، وكان حذرا جدا بتصرفاته "ويبقي هاتفه بالمنزل عند أي عمل".
ولم يكن عابد وعلاونة وغيرهما أول من تمردوا على وظيفتهم العسكرية بسلطة رام الله التي ترفض نهج "المقاومة المسلحة" وتتبنى الحل السلمي فقط مع الاحتلال.
وفي سيرة هؤلاء "المتمردين" يُذكر الشهيد يوسف ريحان "أبو جندل" قائد معركة مخيم جنين خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 2002، الذي يحضر الآن وبقوة لا سيما بين العساكر ومنهم علاونة الذي لُقِّب بـ "أبو جندل" الجديد.
وسبقهم مقاومون آخرون من "العساكر" قتل الاحتلال بعضهم واعتقل آخرين، وبرز نشاطهم أكثر مع بداية هذا العام، ومنهم محمود أبو حجير ونبيل الصوالحي من مخيم بلاطة اللذان اعتقلهما الاحتلال شرق نابلس.

العقيد الرمز
الشهور الأخيرة، بات العقيد في الأمن الوطني فتحي الخازم أبرز الرموز التي يجمع عليها الفلسطينيون كافة، بعد أن رفض أوامر الاحتلال بتسليم نفسه إثر تنفيذ نجله رعد هجوما مسلّحا بشارع "ديزنغوف" وسط مدينة تل أبيب في أبريل/نيسان الماضي، ثم استشهاد ابنه عبد الرحمن في عملية الاحتلال الأخيرة بمخيم جنين يوم 28 سبتمبر/أيلول 2022.
وتنظر إسرائيل للخازم باعتباره "مُحرِّضا" ضدها وقد أصبح مطاردا منذ شهور، ويُعتقد إنه وبخبرته العسكرية ورتبته العالية أسهم برفع روح المقاومين المعنوية، وكذلك العسكريين المؤيدين للمقاومة.
قتال مشروع
في مخيم جنين أيضا، لا ينسى الأهالي اسم داود الزبيدي الذي حمل رتبة رائد في جهاز الأمن الوقائي، وقد ظهر مشتبكا مع الاحتلال بمقاطع فيديو نُشرت عقب استشهاده في مايو/أيار الماضي.
ويقول شقيقه يحيى، وهو ضابط أمن أيضا -للجزيرة نت- إن أصل القتال ضد المحتل مشروع وبكل الوسائل، وهو واجب الفلسطيني إن كان عسكريا أو غيره.
ويقول الزبيدي إن عمل المقاوم بالضفة أصبح "فرديا" وليس باسم فصيل بعينه أو سلطة أو مؤسسة أمنية "قد تتغنى به ظاهرا، لكنها لو علمت به لمنعته". ويضيف "ليس المؤسسة الأمنية فقط، في تنظيم حركة فتح الذي أنتمي إليه، هل رأيت أحدا بارك أي عملية مقاومة أو قال إن هذا حق مشروع لنا؟".
ويحيى وداود هما شقيقا الأسير المعروف زكريا الزبيدي الذي كان يشغل منصبا بهيئة شؤون الأسرى التابعة للسلطة قبل اعتقاله بتهمة إطلاق النار على الاحتلال.
وقد كشفت مصادر بهيئة الأسرى للجزيرة نت أن إسرائيل تعتقل في سجونها 355 فلسطينيا كانوا يعملون بالأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، وبينهم محكومون بالمؤبد أو بأحكام عالية، في حين قتل عشرات آخرون.

السلطة: لم يخرجوا من مقراتنا
في معرض رد السلطة الفلسطينية على توجه عدد من عساكرها للانخراط بالمقاومة المسلحة، يقول محافظ جنين اللواء أكرم رجوب إن رجل الأمن الفلسطيني والمواطن يواجهان نفس الإجرام الإسرائيلي، وإن محاولة الفصل بين أبناء الشعب الواحد المضطهد إسرائيليا "عبثية".
لكن المسؤول الفلسطيني يضيف للجزيرة نت "إن أيا من أولئك العسكريين لم يكن في مقره الأمني عندما بادر للعمل ضد الاحتلال، إنما خرج من بين صفوف شعبه وكان يدافع عنهم وعن أهله".
ولهذا نفى الرجوب أن يكون نموذج "العسكري المقاوم" قد تسبب بالإحراج للمؤسسة الأمنية بما يعرض السلطة لابتزاز الاحتلال. وقال "السلطة الفلسطينية لا تُحرج ولا تُبتز، رغم محاولات اليمين الإسرائيلي تحديدا إضعافها وإظهارها بمظهر العاجز".
ويوضح أن المؤسسة الأمنية "لديها أهدافها وتعليمات قيادتها السياسية التي لا تخرج عنها، وهي أمن الشعب الفلسطيني، وعدم العمل بنفس المربع الذي يعمل به جيش الاحتلال، وألا تعمل وفق المعايير الإسرائيلية".
رغم ذلك، تقول مصادر محلية إن قيادة الأجهزة الأمنية استدعت عناصر لديها وأبلغتهم بتعرض السلطة لضغوط داخلية وخارجية ومحاولة إضعاف إسرائيلي لها، وحذّرتهم من مآلات الانخراط بالمقاومة.
بالمقابل، وفي تعليق سابق له يقول أوهاد حمو، الصحفي بالقناة 12 الإسرائيلية، إن قواته لا ترصد ظاهرة العساكر المقاومين فحسب، بل تتابع أيضا "ظاهرة" المقاومين الذين يعمل آباؤهم بالأجهزة الأمنية المنوط بها "ملاحقة الخلايا المسلحة، وإحباط تنفيذ العمليات العسكرية ضد إسرائيل" وضرب مثلا على ذلك بالشهيدين إبراهيم النابلسي ورعد الخازم، اللذين يعمل والداهما رجلي أمن بالسلطة الفلسطينية.
التحريض متواصل من قبل ومن بعد
ولا تحرّض إسرائيل على المنخرطين في المواجهة المسلحة مع قواتها فقط، بل ترى في مشاركة ضباط وعناصر السلطة الفلسطينية بجنائز الشهداء تهمة يجب محاسبتهم عليها.
يقول الباحث بالشأن الإسرائيلي ياسر مناع إن الاحتلال يدعي أن هناك تمردا بين أفراد الأجهزة الأمنية، وفي الواقع هو يواصل استهدافهم ويعتقل كثيرا منهم ضمن حملاته اليومية قبل موجة التصعيد الأخيرة.
ولم تتوانَ إسرائيل للحظة، يضيف مناع، عن الطلب من السلطة احتجاز عناصر أمنية بمقراتها بسبب مقاومتهم للاحتلال.
ويشير أستاذ السياسة بالجامعة العربية الأميركية بجنين، أيمن يوسف، إلى تنامي "منظومة المقاومة العسكرية" إضافة لأنماط المقاومة المعتادة، وأن هذه الفئة العسكرية تكتسب أهميتها من نوعية عملها المقاوم وازدياد المنخرطين بها، مرجّحا تطورها المرحلة القادمة.
ويقول يوسف للجزيرة نت إن انخراط عناصر من الأمن الفلسطيني بالمقاومة "تطور نوعي" تخشاه إسرائيل، فهؤلاء مدربون عسكريا ويعيشون المعاناة الفلسطينية ذاتها على يد الاحتلال.

الغريزة الوطنية
ويرى يوسف أن السلطة الفلسطينية ستواجه صعوبة إذا حاولت منعهم من المقاومة، وأمامها معيقات كثيرة تحول دون ذلك أهمها أن هذا العمل فردي، وبالتالي عدم القدرة على الوصول لكل عسكري ينخرط في المقاومة.
ويتفق الضابط بالأمن الفلسطيني حاليا، والناشط السابق بكتائب شهداء الأقصى، إياد ستيتي على وجود "حالة تمرد" يعيشها العسكري الفلسطيني فعلا، لكنه "تمرّد على الاحتلال وليس على مؤسسته الأمنية".
ويقول للجزيرة نت إن رجل الأمن واحد من الشعب الفلسطيني يواجه القمع والقهر والقتل الإسرائيلي يوميا، ولكنه يلتزم بالأوامر التي لا تتبنى الكفاح المسلح كخيار الآن، ورغم ذلك تثور لدى كثيرين "الغريزة الوطنية" الموجودة أصلا.