أحرقت طريق نابليون وأرعبت الإنجليز.. هذه نابلس "المشتبكة" مع محتليها تاريخيا
في العام الأخير، صعّدت نابلس مقاومتها وخصوصا منذ اغتيال الاحتلال 3 من نشطائها فبراير/شباط الماضي، ثم استهداف عدد آخر من مقاوميها المطلوبين للاحتلال الذين أسسوا لخلايا -باتت تعرف بمجموعات "عرين الأسود"- تضم عشرات المسلحين الذين اتخذوا من بلدتها القديمة مركزا لهم.
نابلس- يعود المناضل الفلسطيني، إبراهيم الطقطوق، إلى تاريخ الخامس من مارس/آذار 1989، ليروي تفاصيل عملية "الساقوف" (حجر البناء) التي نفذها برفقة صديقه سمير النعنيش و5 مقاومين آخرين ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، بعد استدراجهم إلى البلدة القديمة بمدينة نابلس، شمال الضفة الغربية.
وحتى الآن، أي بعد نحو ثلث قرن على العملية، يتداول النابلسيون القصة وكأنها حدثت أمس، ويتخذونها رمزا لنضال المدينة وبلدتها القديمة، لا سيما مع عودة أبنائها لنشاطهم المقاوم عبر مجموعات وخلايا جعلت جنود الاحتلال الإسرائيلي هدفها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsافتتحها الملك حسين.. مكتبة نابلس وجهة ثقافية عامرة بالضفة الغربية
وصفه الإعلام الإسرائيلي بصاحب الأرواح التسع.. تعرّف على إبراهيم النابلسي الذي اغتالته إسرائيل
معركة نابلس.. ساعات الاشتباك وما تعهّد به أبرز المطلوبين
واصطحبنا إبراهيم الطقطوق (52 عاما) إلى مكان عملية "الساقوف"، وبيده أشار إلى نافذتين تعلوان بناية قديمة، وقال "من هناك ألقينا الحجر، فقتل جندي وجرح آخرون، وطوردنا زمنا قبل اعتقالنا وحكمنا بالسجن المؤبد".
ولم تكن "الساقوف" إلا واحدة من عمليات مقاومة لا تُحصى خاضتها نابلس التي احتُلت مع مناطق الضفة الغربية في حرب عام 1967، وقبل ذلك لم تستسلم المدينة للاحتلالات التي وقعت تحتها.
ويقول الطقطوق -للجزيرة نت- إن نابلس "قنبلة موقوتة" تظل تتصدر الحالة الوطنية والشرارة الأولى لأي انتفاضة، والآن تتشابه الصورة مع الماضي كثيرا، فالاحتلال زاد في الإجرام والقتل ونهب الأرض "وهكذا تكبر الأجيال على كره الاحتلال وظلمه".
جبل النار
وعلى كل الطغاة تمرّدت نابلس تاريخيا؛ فإبان الغزو الفرنسي لمدينة عكا الفلسطينية، مرَّ جيش نابليون بونابرت من وادي قانا (غربي نابلس)، فأحرق المقاومون أحراشه الكثيفة لقطع الطريق عليه، فأُطلق عليها "جبل النار".
كما وصفها الإنجليز -بعد ثورة عام 1936- هي ورفيقتيها جنين وطولكرم بـ"مثلث الرعب".
وقبل ذلك التاريخ وبعده، تدرجت نابلس في مقاومتها:
- عام 1966 بعد "معركة السموع" (قرب الخليل جنوب الضفة) بين الاحتلال الإسرائيلي والجيش الأردني، خرجت مظاهرات على ضفتي النهر (الأردن وفلسطين) للتصدي للصهاينة، وكانت أقواها في نابلس.
- 1967 معركة "دار هواش" مع قوات الاحتلال، واستشهد فيها صدقي هواش خلال تغطيته على فرار ياسر عرفات (أبو عمار) ورفاقه الذين كانوا في منزله.
- 1968 استشهاد الفتاة شادية أبو غزالة (19 عاما) بعد انفجار عبوة ناسفة بمنزلها، حيث كانت تعدها لتفجيرها بمدينة تل أبيب.
- 1969 عقب حريق المسجد الأقصى، خرجت نابلس في مظاهرات حاشدة وتواجه الأهالي مع جيش الاحتلال.
- عام 1974 شهد هبّة فلسطينية بالضفة الغربية تخللتها مظاهرات انطلقت رفضا لإقامة مستوطنات شمال نابلس، وتلتها انتفاضة عام 1976 واستشهاد لينا النابلسي وآخرين. وتميّزت نابلس حينها بعنفوانها وكسر أهلها العزل الذي فرضه الاحتلال على بلدتها القديمة عبر بوابات حديدية وإسمنتية.
- ومع دخول انتفاضة الحجارة عام 1987، لم تنخرط نابلس فيها فحسب، بل قادتها، في حين لحقت بها عدة مدن بعد أشهر، وكانت تتعرض للإغلاق بأوامر الاحتلال وفرض منع التجول لأسبوعين متواصلين أحيانا.
- عام 1996 انعكست "هبة النفق" بالقدس على مدينة نابلس بشكل مباشر، إذ انتفض المواطنون بوجه جنود إسرائيليين في منطقة "قبر يوسف" بالمدينة، واحتجزوا أكثر من 40 جنديا إسرائيليا وقتلوا عددا منهم.
- عام 2000، تداعت أحداث انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية)، وشكّلت نابلس بين عامي 2001 و2002 تحديدا "منبعا" للعمليات الاستشهادية وحاضنة لقيادات المقاومة السياسية والعسكرية. وهو ما عرَّضها وبلدتها القديمة لاجتياح كبير وحصار شديد كلّفها العشرات من الشهداء.
استهداف بالاغتيالات
- عام 1976، انتخب بسام الشكعة رئيسا لبلدية نابلس، و شكّل مع آخرين مؤسسات شعبية وأحزابا وطنية نشطت في الأراضي المحتلة، وعلى رأسها لجنة التوجيه الوطني التي قادت النضال الفلسطيني ضد الاستيطان وسياسات الاحتلال.
- في الثاني من يونيو/حزيران 1980، تعرّض الشكعة لمحاولة اغتيال استهدفت عددا من رؤساء البلديات في الضفة، وقف وراءها ما عرف حينها باسم "التنظيم الإرهابي الصهيوني السري"، وأدى انفجار عبوة وضعت في سيارته إلى بتر قدميه. وأشعلت هذه المحاولة شرارة انتفاضة استمرت لأشهر وشملت مختلف المدن الفلسطينية.
- نهاية يوليو/تموز 2001، عاشت المدينة أكبر عمليات في الانتفاضة الثانية، وطالت الاغتيالات جمال سليم وجمال منصور، القياديين بحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
- عام 2004، اغتال الاحتلال قائد كتاب الأقصى (الذراع العسكرية لحركة فتح)، نايف أبو شرخ، ومجموعته. وتوالت الاغتيالات حتى طالت القياديين في الجبهة الشعبية يامن فرج وأمجد مليطات في اشتباكات مسلّحة.
وعادت عملية مستوطنة إيتمار الفدائية مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015 -التي قُتل وأصيب فيها عدة مستوطنين- لتفجّر الأوضاع الملتهبة أصلا بالضفة الغربية بعد جريمة إحراق المستوطنين لعائلة دوابشة. وكانت تلك العملية الشرارة لسلسلة من عمليات الدهس والطعن في ما عرفت لشهور بـ"انتفاضة القدس"، ومن ثم "هبّة البوابات" على مداخل المسجد الأقصى.
وفي العام الأخير، صعّدت المدينة مقاومتها بأشكالها المختلفة، وخصوصا منذ اغتيال الاحتلال 3 من نشطائها فبراير/شباط الماضي، ثم استهداف عدد آخر ممن وصفهم الاحتلال بـ"المطلوبين"، وعلى رأسهم الشهداء محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح وإبراهيم النابلسي، الذين أسسوا خلايا باتت تُعرف باسم "عرين الأسود" وتضم عشرات المسلحين الذين اتخذوا من بلدة نابلس القديمة مركزا لهم.
خصوصية البلدة القديمة
ويقول كمال ظريفة (أبو كفاح)، عضو لجنة التنسيق الفصائلي بنابلس (لجنة تمثل الفصائل الوطنية والإسلامية) ومن أوائل المنخرطين في النضال عقب احتلالها عام 1967، إن نابلس مركز أساسي بين المدن الفلسطينية وجذرها المقاوم، وبها همّة وطنية عالية لا تخبو من جيل لآخر.
وقضى ظريفة بسجون الاحتلال أكثر 10 سنوات، في اعتقالات عديدة آخرها قبل أشهر، ويرى أن نابلس "حاضنة" للمقاومة بفعل مخزونها البشري الكبير وحب أهلها لأي حالة نضالية ودعمها بكل الطرق، إضافة لطبيعة وبنية بلدتها القديمة (3-5 آلاف عام) التي تحوي سراديب وأزقة جعلت منها حصنا عسكريا للمقاومين، وأعجزت الاحتلال وأدواته المختلفة عن الوصول إليهم في كثير من الأحيان.
خلايا متجددة
وأسهم هذا الحصن (البلدة القديمة) في صقل شخصية المقاومين ونقل تجربتهم، وكان على الدوام نقطة ثابتة وقاسما مشتركا في تجربة المقاومة بكل مراحلها التاريخية. وبفعل زخمها البشري المقاوم، أطلق الاحتلال على نابلس خلال انتفاضة الأقصى "دفيئة الإرهاب"، بعد أن تشكلت فيها خلايا مقاومة موحدة ومنسجمة عبر ما سُمي آنذاك "الجيش الشعبي".
وهذا الجيش الشعبي -كما يقول عنه الباحث أحمد البيتاوي- يشبه إلى حد كبير ظاهرة "عرين الأسود" التي أعادت حالة الاشتباك لمدينة نابلس وأرجعتها إلى مكانتها الطبيعية، وهي "مقاومة الاحتلال، وأي شيء غير ذلك تجميد للواقع"، كما يضيف الباحث.
ومِثل المدينة، عاشت قرى نابلس حالة اشتباك دائم مع الاحتلال، فتعرضت ولا تزال للقمع والاقتحام والحصار الإسرائيلي الذي يُطوِّقها بـ10 حواجز ونقاط عسكرية ثابتة أو متحركة، وأكثر من 15 مستوطنة وبؤرة استيطانية ومعسكرين لجيش الاحتلال.
وإضافة لاعتداءات القوات الإسرائيلية، يتواصل عنف المستوطنين من الهجوم على الأهالي والقرى إلى العربدة وفرض الأمر الواقع، كما يحدث في بلدة حوارة جنوبي نابلس، وفي برقة وسبسطية شمالها، وبيت دجن شرقا.
مواجهة في الريف أيضا
وباتت حوارة في العام الأخير -كما يقول الناشط عبد الرحمن ضميدي- تواجه تصعيدا استيطانيا عنيفا بحماية من جيش الاحتلال، إذ طال المحال التجارية والمركبات والمنازل وإغلاق الشارع، وفوق هذا قمع المواطنين بالرصاص والغاز، حتى إن بعض المستوطنين صار يتسلح من دون إذن من جيش الاحتلال ليفرض مزيدا من العربدة على الأهالي.
وقبل أسابيع قليلة، شهدت البلدة معركة عنوانها "العلم الفلسطيني"؛ إذ حاول المستوطنون إلغاء كل ما هو فلسطيني هناك بمنع رفع العلم، وعمدوا إلى إزالته ورفع علمهم الاحتلالي مكانه، وهو ما أدى إلى مواجهات مستمرة حتى اليوم -وإن بشكل متقطع- مع عقوبات جماعية مارسها الاحتلال على القرية.
وهكذا تعيش نابلس وقراها، التي بها حاليا نحو 425 ألف نسمة، في حالة اشتباك دائم مع المحتل، ويبقى "مزاجها العام مقاوما"، كما يقول زهير الدبعي مؤرخ شؤون المدينة.
ومنذ بداية العام الجاري، فقدت نابلس 20 شهيدا، وهي ثاني أعلى مدينة بعدد الشهداء بعد جنين بالضفة الغربية، أما حالات الاعتقال، فهي بالمئات خلال الشهور الأخيرة.