وقف التمويل الهولندي.. هل سيكون بداية تجفيف موارد المؤسسات الفلسطينية المُلاحَقة؟
في السنوات الأخيرة توقف عمل 15 مؤسسة فلسطينية بعد تجميد تمويلها الأوروبي، معظمها في قطاع غزة، للأسباب نفسها التي تسوقها الحكومة الهولندية الآن، وهي علاقة موظفين فيها بمنظمات مقاومة فلسطينية تصنّفها أوروبا "إرهابية".

رام الله- ينتظر الفلسطيني إبراهيم صوافطة والمزارعون في قرية "بردلا" بالأغوار الشمالية حصصهم المجانية من بنك البذور الفلسطيني الذي أسسه "اتحاد لجان العمل الزراعي" منذ أعوام، وهو ما يمكنهم من إنتاج خضراوات عضوية قليلة استهلاك المياه والأسمدة.
ويملك صوافطة عشرات الدونمات من الأراضي الزراعية التي كان من الصعب زراعتها لقلة المياه بسبب سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على منابعها وعلى الآبار الإرتوازية في المنطقة.
ويعدّ صوافطة ومزارعو قريته بردلا من بين أكثر من 20 ألف مستفيد من خدمات اتحاد لجان العمل الزراعي في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 2009.
لكن نصف مشاريعهم باتت مهددة بالتوقف بعد قرار الحكومة الهولندية الأربعاء الخامس من يناير/كانون الثاني وقف تمويل هذا الاتحاد بالكامل.
وربط اتحاد لجان العمل الزراعي وقف تمويله بإغلاق الاحتلال لمقرّه العام بمدينة البيرة (وسط الضفة الغربية) في يوليو/تموز الماضي، ثم تصنيفه من قبل إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي منظمة "إرهابية" مع 5 مؤسسات فلسطينية أخرى.
وحسب الاتحاد، لم تقدّم الحكومة الهولندية أسبابا "منطقية" لقرارها، على الرغم من أن نتائج التحقيق الذي قامت به على مدار عامين كاملين أثبتت عدم وجود أي صلة بين المؤسسة وجهات تصنفها "إرهابية".

قرار صادم
وبدأت "المشكلة" مع الحكومة الهولندية في عام 2019 إثر تعليق الدفعة الثانية من التمويل المخصص للاتحاد، في أعقاب ما عُرفت بـ"عملية عين بوبين" الفدائية، التي نفذتها خلية من الجبهة الشعبية غربي رام الله وأدت إلى مقتل مستوطِنة وإصابة آخرين.
على إثر ذلك، اعتقل الاحتلال الإسرائيلي اثنين من موظفي لجان العمل الزراعي، واتهمهم بالمشاركة بتنفيذ العملية، فدفع ذلك الهولنديين إلى طلب تحقيق مالي وإداري للتأكد من علاقة الاتحاد بالجبهة الشعبية.
ورغم أن نتائج التحقيق لم تثبت أي علاقة بين المؤسسة أو الجبهة أو العملية، فإن الحكومة الهولندية قامت "بشكل صادم" بوقف تمويلها، كما يقول مدير مشاريع الاتحاد مؤيّد بشارات، "وهو ما يشير إلى علاقة مباشرة بين هذا القرار وإعلان الاحتلال تصنيف الاتحاد على أنه مؤسسة (إرهابية)".
وقال بشارات للجزيرة نت إن "الحكومة الهولندية أرسلت لنا نتائج التحقيق من 8 صفحات، ولا يتضمن محتواها أي إدانة للاتحاد أو أي روابط مالية تنظيمية أو عسكرية مع أي جهة، ومع ذلك أُوقف التمويل".
وهذه المعطيات تؤكد، حسب بشارات، أن "القرار سياسي"، خاصة أن التبرير الوحيد الذي قُدّم كان عن علاقة اثنين من موظفي الاتحاد بالجبهة الشعبية، "وهو تبرير غير منطقي في السياق الفلسطيني، والأصل أن التحقيق مؤسساتي وليس على مستوى الأفراد".
خسائر مركبة
وتموّل الحكومة الهولندية لجان العمل الزراعي منذ عام 2010، ضمن مشروع يتجدد سنويا بقيمة 10 ملايين دولار، وهو ما يوازي 45% من ميزانيتها، ليدفع ذلك الاتحاد إلى تقليص عدد موظفيه بعد تعليق التمويل.
والآن، يقف الاتحاد أمام تحدٍّ كبير، فوقف التمويل لن يؤثر على أكثر من 100 موظف في الضفة الغربية وغزة فحسب، إنما على مشاريع زراعية مهمة يستفيد منها 20 ألف مزارع، 36% منهم نساء.
ويقوم الاتحاد سنويا باستصلاح وتأهيل 1500 دونم من الأراضي الزراعية (الدونم ألف متر)، ويسهم في شقّ نحو 150 كيلومترا من الطرق الزراعية، فضلا عن حفر أكثر من 70 بئرا، ومعظم هذه الخدمات تقدم للمزارعين في المناطق المصنفة (ج) والمهددة بالمصادرة من الاحتلال الإسرائيلي.
وكان الإنجاز الأكبر للاتحاد، الذي أُسس في عام 1986 من مجموعة من المتطوعين، إنشاء بنك البذور الفلسطيني الذي يقوم على حفظ أصناف البذور البلدية الأصلية، وإنتاجها وتوزيعها مجانا على المزارعين مع بداية كل موسم زراعي، وهو المشروع الذي استحق عليه "جائزة الملك طلال للتنمية" العام الماضي.
ويعدّ الاتحاد الآن من أكبر المؤسسات الزراعية على مستوى القيادة الغذائية والعدالة المناخية وتطوير الأراضي والمصادر المائية، ليس فلسطينيا فقط، بل إقليميا؛ من خلال دوره التنسيقي لحركة "طريق الفلاحين" الأكبر في العالم.

الخيارات.. تمويل بديل غير مشروط
ويسعى الاتحاد حاليا للحصول على تمويل من الدول العربية و"الصديقة" كما يقول بشارات، التي تقدم دعما غير مشروط، مؤكدا رفض التمويل من جهات تدين نضال الفلسطينيين. ولكن التخوف الأكبر أن تقوم بقية الدول الأوروبية أيضا بوقف ما تبقى من تمويل الاتحاد وباقي المؤسسات التي صنفتها إسرائيل "إرهابية"، وهو ما يعني تجفيف منابعها بالكامل، ووقف عملها الحقوقي والإنساني والتنموي.
ويقول الصحفي المختص بالشأن الاقتصادي والدعم الدولي، محمد خبيصة، إن هذه الخطوة "متوقعة" من كل الدول الأوروبية وليس من هولندا فقط؛ فمنذ سنوات تضغط إسرائيل على الاتحاد الأوروبي لوقف تمويل المؤسسات الفلسطينية، وهو ما أعقبته شروط جديدة فرضها الأوروبيون في 2020 على دعم هذه المؤسسات بحجة علاقتها بفصائل فلسطينية.
وحسب خبيصة، أُوقف في السنوات الأخيرة عمل 15 مؤسسة فلسطينية بعد تجميد تمويلها الأوروبي، معظمها في قطاع غزة، للأسباب نفسها التي تسوقها الحكومة الهولندية الآن، وهي علاقة موظفين فيها بمنظمات مقاومة فلسطينية تصنّفها أوروبا "إرهابية".
وتعرّض القطاع المصرفي الفلسطيني أيضا لضغوط أدت إلى إغلاق حسابات بعض الجمعيات لوجود شبهات بكونها تابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وذلك في إطار مساعٍ إسرائيلية منظّمة لوقف تمويل أي مؤسسة فلسطينية غير حكومية.
موقف الاتحاد الأوروبي
لا يستبعد منسق أعمال مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية محمود الإفرنجي أن ينسحب موقف هولندا على كل دول الاتحاد الأوروبي، خاصة في ما يتعلق بتمويل 6 كيانات فلسطينية موجودة على "قوائم الإرهاب" الأوروبية.
ويقول الإفرنجي إنه "في حالة هولندا كان واضحا من التحقيق أن لا علاقة للاتحاد وعمله بالجبهة الشعبية، ولكنها اتخذت قرارها لوجود أشخاص عملوا في المؤسسة ينتمون للجبهة الشعبية، وهو ما يتعارض مع مبدأ الحق بالمشاركة السياسية وقيم حقوق الإنسان".
وتابع الإفرنجي للجزيرة نت "لم يكن مصادفة إعلان إسرائيل هذه المؤسسات إرهابية لعلاقتها مع الجبهة الشعبية، بعد تصنيف بعض الدول الأوروبية، ومنها هولندا، الجبهة منظمة إرهابية".
ويقول الإفرنجي إن وقف الدعم سيكون "كارثيا" على هذه المؤسسات، وسيقود إلى تدمير المجتمع المدني الفلسطيني. "فالتمويل الذي يتوقف من الصعب تعويضه من مموّلين آخرين، ومن جهة أخرى فإن هذه المؤسسات لا تتلقى تمويلا من السلطة الفلسطينية لسدّ النقص في التمويل كما بقية دول العالم".
وحسب الإفرنجي، فإن السلطة الفلسطينية تتحمل مسؤولية دعم هذه المؤسسات، فهي تعمل في فلسطين ووفق قوانينها ونظامها المصرفي، ومن ثم فإن السلطة هي المسؤولة عنها وعليها التدخل لحمايتها.