جاكرتا يهددها البحر بالغرق.. جدل في إندونيسيا بعد إقرار نقل العاصمة إلى نوسانتارا

رغم الاتفاق على أن العاصمة جاكرتا تواجه مشاكل يصعب حلها، فإن الخلاف كبير حول طرق الحل وبناء عاصمة جديدة بعيدا عن جزيرة جاوا، لاعتبارات اقتصادية وبيئية وسياسية، فما طبيعة هذا الجدل؟

تصميم للعاصمة الإندونيسية الجديدة نوسانتارا كما تروجه الحكومة (مواقع إلكترونية)

جاكرتا – صادق مجلس النواب الإندونيسي على قانون "عاصمة الدولة" الثلاثاء الماضي بتأييد أغلبية ساحقة، ولم يعترض على القانون سوى كتلة حزب "العدالة والرفاه" الإسلامي (50 نائبا من 575 عضوا بالبرلمان).

ويقضي القانون بنقل العاصمة الإندونيسية من جاكرتا في جزيرة جاوا، إلى إقليم كليمنتان الشرقي في جزيرة بورنيو، التي تعد ثالث أكبر جزيرة في العالم وأكبر جزيرة في آسيا، وتتشارك مع إندونيسيا كل من ماليزيا وبروناي الجزيرة نفسها. وسيطلق على العاصمة الجديدة اسم "نوسانتارا" (أي الأرخبيل).

إقليم كليمنتان الشرقي - إندونيسيا
البرلمان الإندونيسي أقر نقل العاصمة من جاكرتا في جزيرة جاوا إلى إقليم كليمنتان الشرقي البعيد جغرافيا (الجزيرة)

من أين جاء اسم نوسانتارا؟

تبدل المعنى الاصطلاحي والتاريخي لكلمة نوسانتارا منذ عهد مملكة ماجاباهيت، قبل تحوّل جزيرة جاوا دينيا وسياسيا إلى الإسلام، فكان معناها "بين الجزر" أو "بين الجزر خارج جزيرة جاوا".

ولكن المعنى تغيّر خلال توسع مملكة ماجاباهيت، فصار يعني "جنوب شرق آسيا" أو المنطقة التي تحكمها مملكة ماجاباهيت، وظهر الاسم مرة أخرى قبل الاستقلال كاسم للجزر الإندونيسية أو الأرخبيل الذي كانت تستعمره هولندا حتى أواسط القرن الماضي، فاقتُرح أن يكون اسم نوسانتارا هو اسم هذه الجزر عند استقلالها، ولكن تم اختيار اسم إندونيسيا، وهي تسمية حديثة نسبيا أيضا.

وفي الأدبيات المعاصرة والدراسات الملايو-إندونيسية، تشير كلمة نوسانتارا اصطلاحيا إلى الجزر التي يسكنها المسلمون في جنوب شرق آسيا عموما وليس فقط إندونيسيا.

لذلك فإن إطلاق اسم نوسانتارا بكل ما يحمله من تراكمات لتلك المعاني عبر 5 قرون أثار جدلا فكريا واصطلاحيا قبل أن يكون سياسيا.

الاختناق المروري في شوارع جاكرتا مشهد اعتيادي في معظم ساعات النهار (غيتي)

لماذا نقل العاصمة؟

يقول رئيس اللجنة الخاصة بمشروع قانون "عاصمة الدولة" أحمد دولي كورنيا تانجونغ إن نقل العاصمة من جاكرتا إلى مقاطعة "بناجم باسر أوتارا" في إقليم كليمنتان الشرقية يأتي لدوافع تعتبرها الدولة ضرورية، من أهمها أن جاكرتا -وهي مدينة ساحلية وأراضيها منخفضة- معرضة للغرق بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع منسوب مياه البحر، وتقدر تكلفة نقلها بحدود 35 مليار دولار أميركي.

ويوضح، في حديثه للجزيرة نت، أن "المرحلة الأولى من عملية النقل ستبدأ قبل سنة 2024 حيث سينقل مكتب رئيس الدولة ونائبه أولا، تتبعه مكاتب المؤسسات الحكومية الإستراتيجية كوزارة الداخلية والخارجية ووزارة الدفاع، مع 7 آلاف موظف حكومي في المرحلة الأولى".

وعن مصير جاكرتا بعد نقل العاصمة، يقول تانجونغ "من حقنا التعلّم من نقل أميركا عاصمتها من نيويورك إلى واشنطن، وبقيت نيويورك مركزا للمال والأعمال والاقتصاد، وكذلك أستراليا التي نقلت عاصمتها من ميلبورن إلى كانبرا حيث بقيت العاصمة القديمة مدينة التربية والتعليم".

معظم مناطق العاصمة جاكرتا تغرق في مواسم الأمطار الغزيرة (رويترز)

مبررات حكومية

يقول وزير التخطيط السابق أندرينوف تشانياغو -وهو أحد المنظرين لفكرة نقل العاصمة- "هناك عشرات المبررات والدوافع الإستراتيجية لاتخاذ هذه الخطوة المهمة من أجل تحقيق التنمية لإندونيسيا بأكملها، والخروج من نفق الأزمات العالقة منذ عقود، التي تتمثل في عدم المساواة في التنمية بين الجزر الإندونيسية في البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية المركزة في جاوا".

ويضيف تشانياغو أن مشاكل الفيضانات والتلوث وأزمات المرور والنفايات وغيرها من المشاكل الاجتماعية الأخرى في جاكرتا، يصعب حلها بسبب الاكتظاظ السكاني، ووجود تجمعات سكانية عشوائية، إلا بكسر عنصر الجذب في جاكرتا بحكم أنها العاصمة، إلى بؤرة جذب جديدة في منطقة أخرى".

ويواصل الوزير السابق شرحه بأن المشروع يهدف للحفاظ على خصوبة الأراضي الزراعية في جزيرة جاوا، وإنقاذها وسكانها من المخاطر البيئية التي يسببها تركيز البناء لعقود في هذه الجزيرة على حساب الغابات والتربة في الجزيرة، علما بأن جزيرة جاوا تمثّل خزان زراعة الأرز في إندونيسيا بسبب خصوبة تربتها أكثر من غيرها من المناطق.

أورانغوتان أو "إنسان الغابة" في جزيرة كليمنتان من الحيوانات المهددة بالانقراض بسبب الإضرار بالبيئة (غيتي)

ردود فعل رافضة

المصادقة المتعجلة من الحكومة والبرلمان واجهت انتقادات واسعة حزبية وشعبية، بسبب عدم أخذ الوقت الكافي في المناقشة مع المختصين والقوى السياسية.

يقول عضو البرلمان عن حزب العدالة والرفاه المعارض مارداني علي سيرا إن قانون نقل العاصمة لم يكن ضروريا في ظل الأزمة الاقتصادية بفعل آثار كورونا، والديون الأجنبية البالغة 416 مليار دولار أميركي"، معتبرا استعجال التشريع ودون مشاركة ومناقشة من الخبراء والمثقفين، ويتوقع رفع شكوى للمحكمة الدستورية ضد هذا القانون.

ويؤكد سيرا في حديثه للجزيرة نت أن مشكلة التلوث والاكتضاظ السكاني وتهديدات من الفيضانات يمكن حلّها من خلال إدارة الأزمة بشكل جدي، وأن الدولة في الظروف الراهنة لا تحتمل تكاليف النقل العالية (35 مليار دولار)، والأفضل إنفاقها في مشاريع تنموية أخرى أكثر جدوى.

ويعتقد سيرا أن موقع العاصمة الجديد في كليمنتان فيه خطورة من منظور جيوسياسي، لأنه قريب من منطقة الصراع في بحر جنوب الصين، مما يلزم بناء المجال الدفاعي لأمن الدولة بتكاليف إضافية تزيد عن 8 مليارات دولار.

ويواصل النائب في توضيح مبررات رفض القانون بالقول إن بناء العاصمة الجديدة ستؤدي للإضرار بالبيئة ومناطق الغابات المحيطة بالعاصمة، حيث تقدر وزارة البيئة والغابات أن المنطقة المذكورة تضم أكثر من 800 نوع من الحيوانات والنباتات سيحلق بها الضرر حتما.

معارضون: تكاليف بناء عاصمة من الصفر مرهقة للاقتصاد ويفترض توجيهها لقطاعات تنموية أخرى أهم (مواقع إلكترونية)

توجه للمحكمة الدستورية

من جانبه يعتقد المؤرخ جيجي رزال في حديثه للجزيرة نت أن نقل العاصمة هو مشروع الأقلية الحاكمة من ذوي النفوذ المالي والسياسي، ويدلل على ذلك بقوله "لذلك فالتحالف الحاكم لم يشارك أحدا في بحث مسألة نقل العاصمة حتى الحكومة المحلية في كليمنتان الشرقية".

أما منسق تحالف الناشطين ومدير المنتدى الإندونيسي للبيئة في كليمنتان الشرقية يوهانا تيكو فيقول للجزيرة نت إن "إجراءات المصادقة على القانون كانت متسرعة وغير صحيحة، فهي لم تستغرق منذ بدء مناقشتها حتى إقرارها أكثر من 40 يوما، وهي مدة قصيرة جدا لاتخاذ خطوة بهذه الأهمية والخطورة على السكان والبيئة في الموقع الجديد للعاصمة".

كما يرفض دين شمس الدين الرئيس السابق لجمعية المحمدية (تضم أكثر من 30 مليون عضو) خطة نقل العاصمة، وأكد أنه سيرفع دعوى قضائية في المحكمة الدستورية ضد القانون.

ويعتقد شمس الدين في حديثه للجزيرة نت أن توقيت بدء المشروع الكبير يأتي في ظل جائحة كورونا وخسائرها البشرية والمادية ومخاطرها على الاقتصاد الوطني، فالتوقيت غير مناسب لتحميل الدولة المزيد من الديون الأجنبية التي تبلغ الآن 416 مليار دولار حتى آخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

وفي السياق ذاته يرى الخبير الاقتصادي أميل سالم أن مشروع نقل العاصمة لن يحقق هدفه المعلن بتحقيق العدالة بالتنمية وتقليص الفجوة الاقتصادية بين المناطق الإندونيسية، لأن المشروع يبدأ من الصفر لبناء مدينة جديدة في جزيرة نائية وبعيدة، وأن الميزانية المرصودة لهذا المشروع (32 مليار دولار) يمكن توظيفها في مشاريع أخرى لمواجهة جائحة كورونا ومعالجة آثارها وتنمية الموادر البشرية كتنمية المدارس والجامعات.

المصدر : الجزيرة