الديون تهدم الاستقلال.. مأساة الجانب المظلم من عهد الخديوي إسماعيل

القاهرة- "إن أساس الإدارة هو النظام والاقتصاد في المالية، وسأبذل كل جهدي في اتباع قواعد النظام والاقتصاد، وقد عزمت أن أرتب لنفسي مخصصات محددة لا أتجاوزها أبدا، وسأعني بتوطيد دعائم العدالة…".
بهذه الكلمات تحدث الخديوي إسماعيل في "خطبة العرش"، معلنا برنامج حكمه أمام وكلاء الدول، بعد أن تولى حكم مصر في 18 يناير/كانون الثاني 1863، لكن لم يلبث أن بدأ مشوار الاقتراض في العام التالي مباشرة، رغم أن مصر لم تكن وقتها في حاجة للاقتراض.
يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه "عصر إسماعيل" إن مسألة الديون هي الجانب المظلم من عهد إسماعيل، لأنها المأساة التي انتهت بتهدم بناء الاستقلال، وتدخل الدول الأجنبية في شؤون البلاد المالية والسياسية.
وفي كتابه "قصة الاقتصاد المصري"، يؤكد أستاذ الاقتصاد جلال أمين أننا إذا وصفنا عهد محمد علي بأنه كان عهد التنمية بلا ديون، فإن من الممكن وصف عهد إسماعيل بأنه كان عصر الديون بلا تنمية، "وذكرنا أن شيئا شبيها جدا بذلك قد عانته مصر بعد 100 عام من عصر إسماعيل، حيث اقترنت السبعينيات بالتورط في الديون، مع النمو السريع في التدخل، دون أن يحدث أي تقدم يذكر في هيكل الجهاز الإنتاجي، بل مع تدهور ملحوظ له".
لم تمر أسابيع على بداية عهد إسماعيل حتى قام بدعوة السلطان العثماني عبد العزيز لزيارة مصر، ليبدأ سياسة دفع الرشاوى للسلطان وحاشيته للحصول على فرمانات تغيير نظام وراثة العرش، والحصول على لقب خديوي وتوسيع استقلاله.
إنجازات متعددة
يقول موقع رئاسة الجمهورية في الجزء الخاص بالحكام السابقين لمصر، إن إسماعيل "أسرف في المشروعات النهضوية ومظاهر العظمة؛ فلجأ إلى القروض؛ الأمر الذي أدّى إلى تدخّل الأجانب في الشأن المصري اقتصاديًّا وسياسيا".
ويعدد موقع الرئاسة إنجازات اسماعيل، مشيرا إلى أنه حول مجلس المشورة لمجلس شورى النواب، متيحا لشعب مصر اختيار النواب، كما حول الدواوين إلى نظارات (وزارات) وشكّل أول نظارة تشاركه مسؤولية الحكم، واهتم بالمشروعات الزراعية وحفر ترعتي الإبراهيمية والإسماعيلية، وأنشأ الكثير من المصانع، منها 19 مصنعا للسكر.
كما اهتم الخديوي بالتعليم وزاد ميزانية نظارة المعارف، وكلف علي مبارك بوضع قانون أساسي للتعليم، وأنشأ دار العلوم لتخريج المعلمين ودار الكتب، وظهرت بعض الصحف في عهده مثل الأهرام والوطن.
ويذكر جلال أمين في "قصة الاقتصاد المصري" أن إسماعيل لم يقتصر فقط على القصور الفخمة وتجميل القاهرة وإقامة دار فخمة للأوبرا، وغيرها من مظاهر البذخ التي أنفق عليها الكثير، لكنه أيضا أضاف 8400 ميل من الترع لشبكة الري، و910 أميال من السكك الحديدية، وأصلح ميناء الإسكندرية.
افتتاح قناة السويس
يبقى الإخفاق الأكبر في تاريخ إسماعيل هو حفل الافتتاح الأسطوري لقناة السويس، حيث حقق إسماعيل الحلم الذي راوده طويلا، وافتتح القناة في حفل حشد فيه ملوك وملكات أوروبا، تقدموا نحو 4 آلاف من الضيوف، وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 1869.
لكن الحفل الكبير أرهق ميزانية البلاد، مما اضطر إسماعيل لبيع أسهم مصر في القناة لإنجلترا مقابل 4 ملايين جنيه، رغم أنها كانت تساوي 32 مليونا، فاتحا الباب لتدخل الأجانب في شؤون البلاد.
عجز عن السداد
يرى الأكاديمي بجامعة القاهرة أحمد عبد ربه أنه منذ افتتاح القناة أصبح النفوذ البريطاني مسيطرا على مصر، وتم الضغط عليها لسداد ديونها، ومع عجز الخديوي عن الوفاء بتعهداته لتسديد الديون، تم إنشاء "صندوق الدين" الذي سيطر على اقتصاد مصر، وأجبر الخديوي في النهاية على التنازل عن عرشه بتنسيق بريطاني-فرنسي-عثماني.
ويقارن جلال أمين بين اقتراض مصر في السبعينيات من القرن العشرين وما حدث في عهد إسماعيل، إذ زاد الإنفاق في عهده بدلا من أن يضغطه، وبعد 13 عاما من حكمه، أي في عام 1876، السنة التي خرجت الإدارة المالية المصرية عن سيطرته وأصبحت في يد المراقبين الأجانب؛ وصلت ديون مصر الخارجية إلى 91 مليون جنيه، وبلغ حجم خدمتها السنوية (حجم الأقساط السنوية والفوائد) نحو 6 ملايين جنيه، نحو 80% من إجمالي إيرادات الدولة المصرية في ذلك الحين.
ويقارن أمين بين نمط التنمية في عهد إسماعيل وعهد الرئيس الراحل أنور السادات الذي حكم مصر في الفترة من 1970 إلى 1981، حيث التركيز على البنية الأساسية من دون إحداث أي تغيير يذكر في هيكل الاقتصاد المصري لصالح التصنيع.
ديون اليوم
وكما قارن أمين بين عصر إسماعيل وعصر السادات، يقارن البعض بين الديون التي عانت منها مصر في عهد الخديوي إسماعيل والديون التي تتحملها مصر حاليا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ففي أكتوبر/تشرين الأول الماضي أعلن البنك المركزي وصول الدين الخارجي لمصر إلى 137 مليارا و859 مليون دولار في نهاية العام المالي 2021/2020، في مقابل 123 مليارا و490 مليون دولار في نهاية العام المالي السابق، إذ زاد الدين الخارجي بنحو 14.4 مليار دولار.
وأثار قرار للبنك المركزي بمنح السيولة الطارئة للبنوك الأسبوع الماضي لعدم قدرتها على توفيرها من سوق "الإنتربنك" أو من الأسواق المالية الأخرى قلقا لدى البعض، بسبب ما يثيره من تساؤلات عن احتمال عجز البنوك عن تلبية طلبات عملائها.
أمر مفزع
وقبل عدة أشهر، كتب الصحفي المقرب من السلطة عماد الدين حسين مقالا تحدث فيه عن خطورة وصول الدين الخارجي المصري لما يقرب من 130 مليار دولار، مذكرا بما حدث لمصر في عهد الخديوي إسماعيل، وأضاف "علينا أن نعود مرة أخرى إلى ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو ألا نقترض إلا إذا كان الأمر ملحا وضروريا، واقترح على الحكومة أن تتوقف عن الاقتراض المؤقت حتى ندرس الموقف بهدوء ونقدر نتائجه وتبعاته، وأتمنى ألا يوافق البرلمان على أي قرض إلا إذا كان "للشديد القوي"، على حد قوله.
ثقة في الاقتصاد
ويرى المؤيدون لنظام السيسي أن النظام يتوسع في تشييد المشروعات العملاقة، مثل العاصمة الإدارية الجديدة وتنمية الصعيد ومبادرات التنمية التي تستهدف الفقراء مثل "حياة كريمة"، وتطوير القاهرة وإزالة العشوائيات، وأن حصول مصر على القروض من صندوق النقد الدولي يعطي ثقة كبيرة في الاقتصاد المصري ويحفز الاستثمار الأجنبي.
في حين يرى معارضون أن هذه المشروعات المليارية تكلف مصر ملايين الدولارات، ويتم الترويج لها في وسائل الإعلام، مثل موكب المومياوات الملكية وافتتاح طريق الكباش، رغم تحذيرات دولية بارتفاع نسب التضخم وحدوث ركود اقتصادي وارتفاع أسعار الفائدة؛ وبالتالي ارتفاع أسعار الاقتراض عالميا بعد جائحة كورونا.
ومؤخرا صرح المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي الدكتور محمود محيي الدين -في تصريحات متلفزة- بأن تكلفة الاقتراض عالية، وتحمل أعباء على الأجيال القادمة، وأنه من الأفضل التشجيع على الاقتصاد الأخضر، محذرا من أوضاع الاقتصاد عالميا في ظل الجائحة.