حلولها قد تستغرق أعواما والهجرة أسهل المخارج.. ثلاث أزمات تحاصر اللبنانيين
تدهورت الأوضاع المعيشية في لبنان خلال العامين الماضيين جراء انهيار قيمة العملة الوطنية لتفرز أكبر أزمة تشهدها البلاد منذ استقلالها عام 1943، فقد أدى تراجع الدعم الحكومي لأسعار سلع أساسية كالمحروقات والقمح والأدوية، علاوة على الاحتقان السياسي والمذهبي، إلى ظواهر لم تشهدها البلاد في تاريخها كالاشتباكات بالأسلحة النارية أثناء التزاحم للحصول على الوقود المدعوم، ونزول مرضى السرطان إلى الشارع طلبا للأدوية التي أخفاها التجار في مستودعاتهم، لبيعها لاحقا بأسعار أعلى.
وتفيد أرقام الجهات النقابية بحدوث هجرة جماعية في عدد من القطاعات، أبرزها قطاعا الطب والتمريض، وبالإمكان الاستدلال على مؤشراتها من الطوابير التي تنتظم منذ ساعات الليل أمام مراكز الأمن العام سعيا للحصول على جوازات سفر تتيح مغادرة البلاد.
وزادت جائحة كورونا وما رافقها من إغلاقات قسرية، وكارثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، حدة الأزمة بمظاهرها الاقتصادية والسياسية والمعيشية.
تعرض هذه التغطية بالأرقام والبيانات والتحليلات والمعلومات جوانب الأزمة اللبنانية التي تتواصل فصولها خلال العام 2021، ومؤشراتها الكبرى، ومستقبل البلد الذي كان يسبق سنغافورة في نسب النمو والمؤشرات المعيشية في حقبة الستينيات.
أزمة متعددة الأبعاد
تعد الأزمة الراهنة التي يشهدها لبنان هي الأخطر على مدى تاريخه المعاصر، فالمؤشرات الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية الخطيرة لم تعرفها بلاد الأرز حتى أثناء الحرب الأهلية التي استمرت نحو 15 عاما. ومع الولادة العسيرة لحكومة نجيب ميقاتي في العاشر من سبتمبر/أيلول الجاري، بعد 13 شهرا على استقالة حكومة حسان دياب، تبرز صعوبة إيجاد الحلول الكفيلة بوقف التدهور في مرحلة أولى، واستعادة التوازن في مرحلة ثانية.
احتجاجات الشارع
منذ "احتجاجات القمامة" عام 2015، لم يهدأ الشارع اللبناني الذي كان يستشرف عمق الأزمة في البلاد ومآلاتها. وكانت احتجاجات "الواتساب" (WhatsApp) في أكتوبر/تشرين الأول 2019 ضد فرض ضريبة على الاتصالات عبر تطبيق الواتساب، هي التي أشعلت الشارع ودفعت حكومة سعد الحريري للاستقالة بعد أسبوعين.
ومنذ ذلك الحين لا يكاد يهدأ الشارع اللبناني حتى يضطرب مرة أخرى، وإن كانت دوافع التظاهر وقطع الطرقات تتباين وتختلف من مظاهرة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى. وشهد يونيو/حزيران الماضي آخر هذه الموجات وأوسعها نطاقا، حيث توزعت على جغرافيا لبنان من شماله إلى جنوبه مرورا بالعاصمة.
يربط خبراء البنك الدولي الأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية في لبنان بالهدر والفساد الحكوميين خلال الأعوام الـ30 الماضية.
وأبدى البنك الدولي في تقريره الصادر في يونيو/حزيران 2021 تشاؤمه من إمكانية ظهور بادرة تحوّل واضحة أمام لبنان في الأفق، نظرا لما وصفه بـ"التقاعس الكارثي والمتعمد على صعيد السياسات، إذ أججها الهدر والفساد الحكومي على مدى عقود".
وقد تعرض خبيران اقتصاديان لبنانيان معروفان، هما توفيق كسبار وكمال ديب، للسياسات التي تمسك بخناق الاقتصاد اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1989 في مؤلفات صدرت عامي 2005 و2020، أولها كتاب كسبار الصادر عام 2005 والذي تناول إرث حكومات رفيق الحريري بين أعوام 1993 و2002، وهنا أبرز ما ذكره:
– "بقي ميزان المدفوعات إيجابيا كل عام من 1951 إلى 1982، ما عدا العجز البسيط خلال عام 1967، وكانت الحكومة بلا دين تقريبا عام 1975 (سنة اشتعال الحرب الأهلية)، ومن ثم بقي دين الحكومة في مستويات معتدلة حتى بداية تسعينيات القرن العشرين" (ص: 88).
– "نشرت تفاصيل خطة إعادة الإعمار التي وضعتها الحكومة (حكومة الحريري الأولى نهاية 1992) في وثيقة رسمية سميت "أفق 2000 لإعادة الإعمار والإنماء". في الأساس كانت الخطة عبارة عن برنامج إنفاق مبلغ 14.3 مليار دولار على مختلف المناطق والقطاعات، وذلك خلال 10 سنوات (1993-2002)، إلا أنه سرعان ما طويت الخطة بعدما تجاوزتها التطورات الاقتصادية، وأظهرت عدم واقعيتها" (ص: 259).
– "ارتكزت كل الإستراتيجية الاقتصادية للحكومة على تأمين استقرار سعر صرف الليرة وإنفاق طموح. وقد نفذت هاتان السياستان، لكن النتيجة جاءت مغايرة بشكل كبير للتوقعات، إذ اتسمت الفترة منذ عام 1992 بظاهرتين بارزتين: انخفاض معدلات النمو، ارتفاع كبير في الدين العام" (ص: 261).
– "بدءا من عام 1997 أخذ الحديث الذي كان يدور سابقا عن إعادة الإعمار يتجه نحو إبداء القلق حول المستويات المرتفعة للعجز المالي والدين العام. ولم تتحرك السلطات إلا عام 2002 إزاء الخطر الذي كان يمثله الدين العام المتفاقم، والضغوط الكبيرة المصاحبة له على الليرة اللبنانية. فأعلنت عندئذ برنامجا طموحا للإصلاح الاقتصادي يرتكز أساسا على مشاريع لخصخصة بعض المرافق العامة" (ص: 264-265),
– "على افتراض أن كل النفقات الاستثمارية ذهبت إلى إعادة الإعمار، يتبين أن جزءا صغيرا فقط حوالي 14% من إجمالي النفقات تم تخصيصه لعملية إعادة الإعمار. وتماما كما في الماضي وقبل عام 1975، كانت حصة المناطق خارج بيروت ووسط البلاد ضئيلة، في حين أن كلفة الفوائد على الدين العام بلغت 39% من إجمالي النفقات أي ما يعادل 15% من الناتج المحلي. وبشكل عام أنفقت الحكومات المتعاقبة منذ عام 1993 أكثر من ثلثي المبلغ أو ما يعادل 26% من إجمالي الناتج المحلي على فوائد الدين العام، وعلى الرواتب والأجور. وهنا يجوز طرح السؤال الآتي: هل من الممكن تقدير حجم الهدر في هذه النفقات؟" (ص: 266-267).
تناول كمال ديب حقبة رفيق الحريري بين أعوام 1992 و2005، وهنا أبرز ما ذكره في كتابه الذي صدر عام 2020 وكان الحلقة الأخيرة من 3 كتب حول اقتصاد لبنان:
– بوصول رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول 1992 بدأ عصر دولة المحاصصة، حيث كُلف "بتشكيل حكومة إنقاذ اقتصادي" شكلت فرصة لاقتسام الوظائف والمغانم"، وذلك في إطار ما عرف بـ"ترويكا الحكم" (إلياس الهراوي، نبيه بري، رفيق الحريري).
– قام "أهل السلطة بتوظيف أتباعهم وأفراد عائلاتهم بالآلاف في مؤسسات الدولة والإدارة العامة" (…)، كما "غزا الفساد الإدارات العامة من أساليب غش وتمرير صفقات وموافقات ضد القانون لتنفيع الحاشيات" (ص: 149-150).
– ارتكزت دعائم الاقتصاد في دولة المحاصصة "على 3 أسس، أولا: الإمساك بالعملة الوطنية عبر ربطها بشكل دائم بالدولار الأميركي، وهو ما تطلب رفع الفوائد وكلفة تمويل الدولة، وثانيا: اقتطاع الوسط التجاري (لبيروت) وجعله حكرا على هؤلاء، وثالثا: تقاسم الوزرات الخدماتية والأجهزة الأمنية والعسكرية" (ص: 165).
– في مايو/أيار 1993 عين رياض سلامة حاكما لمصرف لبنان المركزي باعتباره "الركن الأساسي في تنفيذ سياسة الحريري المالية" (ص: 180)، وتلخصت إدارة الحريري للدين العام بإطلاق يد مصرف لبنان لرفع قيمة الليرة تدريجيا (كانت قد وصلت 3 آلاف ليرة مقابل دولار) وتثبيتها على الدولار الأميركي (1507 ليرات لبنانية)" (ص: 187).
وقد "أدت سياسة تثبيت العملة تجاه الدولار إلى نمو غير عادي في الدين العام، وابتلاع ودائع البنوك المحررة بالليرة" (ص: 188).
– "أفرطت حكومة الحريري في الاستدانة بسبب فشلها المتمادي في لجم عجز الموازنة" (..)، وانقسم ريع الاستدانة إلى قسمين: تسديد الفواتير المترتبة على السندات، ثم تسديد قسمة السندات عندما تستحق بتاريخ مستقبلي يمتد إلى ما شاء الله" (ص: 180).
– "كانت نتيجة 6 سنوات من حكومة الحريري وديناميته المدهشة هي تراكم دين عام هائل سيكون عبئا لا يحتمل على كاهل أجيال اللبنانيين يتدحرج ككرة الثلج من ملياري دولار عشية ولادة حكومة الحريري عام 1992 إلى 15 مليار دولار عام 1998، وهو ما عادل الناتج القومي اللبناني (100%)، ثم إلى 90 مليارا خلال 20 سنة" (ص: 192-193).
– أصبحت الأزمة المالية العامة حقيقة على الأرض عندما عاد الحريري إلى رئاسة الحكومة عام 2000 "ولم يكن سبب الأزمة المالية هو نمو الدين العام وتسديد الفوائد فقط، بل أسباب أخرى، هي: تشارك الحريري وأقطاب السلطة في منافع اقتصاد الريع، وهدر الزعماء موارد الوزارات الخدماتية التي يسيطرون عليها لاستعمالها في الزبائنية السياسية بعيدا عن أهداف التنمية، ونفقات الأجهزة الأمنية والقادة العسكريين والأمنيين ومنافعهم والتي كانت تتعاظم عاما بعد عام" (ص: 282-283).
النمو في دوامة الأزمات
نظرا لهشاشة الاقتصاد اللبناني، الذي يقوم بالأساس على قطاع الخدمات والسياحة وتدفق الودائع والرأسمال الخارجي ويغلب عليه النمط الاستهلاكي، لعبت الأزمات السياسية المتتالية والحروب والانقسامات الداخلية والخلافات الإقليمية دورا رئيسيا في نموه صعودا وهبوطا في العقود الماضية، وفي الفترة الأخيرة أدت حالة الشلل السياسي إلى انهيار الاقتصاد وتأزم الأوضاع المعيشية بشكل غير مسبوق.
وكانت الحرب الأهلية لحظة مفصلية بين مرحلتين، حيث تداعى خلالها النموذج اللبناني "البراق" بشقيه الاقتصادي والاجتماعي، إذ كان لبنان قبلها يعرف بـ"لؤلؤة الشرق" بمؤشرات اقتصادية ومعيشية لافتة رافقتها حركة فنية وثقافية غير مسبوقة، وشهدت مرحلة ما بعد اتفاق الطائف (1990) استقرارا سياسيا وانتعاشا اقتصاديا، وظلت الأوضاع لاحقا متأرجحة وفق حدّة الأزمات الداخلية والإقليمية.
رياض سلامة.. حاكم المصرف المزمن
منذ انفجار الأزمة المالية عام 2019 بدا وكأن حاكم المصرف المركزي وعراب السياسات المالية للبنان منذ عام 1993 هو الممسك بعنانها، رغم الشبهات القضائية التي أثيرت ضده في سويسرا وفرنسا، وترجمت استجوابا له من قبل المحامي العام التمييزي في لبنان.
تتلخص مهمة سلامة ومصرفه -حسب قانون النقد والتسليف اللبناني- في "سلامة النقد، والاستقرار الاقتصادي، وسلامة الوضع المصرفي"، لكن المنصب الذي يشغله سلامة وقع منذ بداية انهيار قيمة الليرة (العملة المحلية) نهاية العام 2019 على تقاطع نيران 3 جهات: حكومة حسان دياب ورعاتها (حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر) والمصارف، والشارع الغاضب.
واجتمعت الجهات الثلاث على تحميله وزر "الهندسة المالية" التي ابتكرها والتي أدت إلى الاستعاضة عن واردات الدولة التي انعدمت بفعل فشل سياساتها الريعية خلال الأعوام الـ30 الماضية بودائع المواطنين ومدخراتهم، واهتز موقف سلامة في يونيو/حزيران 2020 وبات أقرب إلى الإقالة لولا حسابات الطبقة السياسية المعقدة للتوافق على خلف له، وتدخل زعيم أمل ورئيس البرلمان نبيه بري إلى جانبه.
عام 2004 (خلال مؤتمر باريس 2) كان يشار إلى سلامة بالبنان بسبب استثماره في الذهب بعدما كان إلياس سركيس قد بادر بمراكمته عندما كان حاكما للبنك المركزي. وبنى سلامة مخزونًا كبيرا من الاحتياطي الرسمي بالعملات الأجنبية. لكنه ما لبث بعد 17 عاما أن تحوّل من رمز للاستقرار النقدي إلى رمز للهندسات المالية التي أفادت رجال الأعمال والطبقة السياسية.
نهاية أبريل/نيسان 2020 ردّ سلامة على منتقديه -في مؤتمر صحفي- بالتصويب على كافة الحكومات السابقة، فقال إن مصرف لبنان موّل الدولة، لكنه ليس من صرف الأموال، مطالبا المؤسسات الدستورية بالكشف عن آلية وكيفية صرف تلك الأموال.
ويشير عدم تردده في يوليو/تموز 2021 في رفع الدعم عن المحروقات (تكلف الخزينة 6 مليارات دولار سنويا) دون انتظار إقرار البطاقة التمويلية، إلى متانة موقفه حيال الطبقة السياسية الحاكمة التي قال إن رموزها يعلمون بالقرار غير الشعبي مسبقا دون أن يذهبوا إلى تأييده في العلن.
لكن الموقف القانوني لسلامة لم يعد بالمتانة ذاتها منذ يناير/كانون الثاني 2020، ففي هذا التاريخ أثارت النيابة الفدرالية في سويسرا الشبهات حول احتمال ضلوعه في "ارتكاب عمليات غسل أموال خطرة، بما يتصل باختلاس أموال محتمل على حساب مصرف لبنان"، وهو ما فتح الباب أمام المحامي العام التمييزي القاضي جان طنوس لاستجواب سلامة في الخامس من يوليو/تموز 2021 على مدى 3 ساعات و15 دقيقة.
أما في فرنسا -التي يحمل سلامة جنسيتها- فظهرت في يونيو/حزيران 2021 شكويان حول ثروة سلامة، شملتا التآمر الجنائي وتبييض الأموال، وطلبت النيابة العامة الفرنسية من شرطتها المالية إجراء تحقيقاتها بناء على تلك الاتهامات.
ثمة بعد دولي وإقليمي للأزمة الاقتصادية والسياسية اللبنانية تظهره مواقف الدول المؤثرة في لبنان، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا.
التعطل الحكومي والأزمة السياسية
سيناريوهات المستقبل
ما تبعات إعلان الدولة اللبنانية في مارس/آذار 2020 على لسان رئيس الحكومة السابق حسان دياب إفلاسها؟ ماذا سيترتب على استشراء الفوضى والانفلات والفقر؟ وهل ستأتي الانتخابات المقبلة بفريق سياسي جديد؟ هذه نماذج لأسئلة طرحتها الجزيرة نت على 3 اختصاصيين لبنانيين هم أنطوان فرح وميسون حمزة وحسين أيوب.
فريق العمل
محررون: محمد العلي وزهير حمداني
التصاميم والإنفوغراف: قسم الملتيميديا