لغة نوبة مصر.. مخاوف من الاندثار ومحاولات للبقاء
لجأ الجيش المصري إلى اللغة النوبية كشفرة سرية للإبلاغ عن التعليمات بين القادة والضباط قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

كثيرة هي المقومات التي تُشكل في مجملها هوية الأمم، ولكن اللغة تظل هي المقوم الأكثر ثقلا الذي يختزن الماضي ويصيغ المستقبل ويشدّ وثاق الوحدة بين أفراد المجتمع.
هذا ما فعلته اللغة النوبية وهي لسان أهل النوبة في مصر، غير أن المدة الأخيرة تشهد تراجعا صريحا لها على ألسنة الناطقين بها، وهو ما يثير قلق عجائز أهل النوبة.
ذلك القلق عبر عنه أخيرا المطرب الشهير، محمد منير ابن النوبة معتبرا جيله آخر الأجيال التي تتحدث اللغة النوبية.
وأوضح منير (66 عاما)، خلال حوار تلفزيوني أجراه حديثا، أن الأجيال القديمة أخفقت في تعليم الجيل الجديد اللغة النوبية.
ولم يخف المطرب الشهير فضل النوبية على مسيرته الفنية، مرجعا سبب نجاحه خلال حقبة السبعينيات من القرن الماضي إلى الغناء باللغة النوبية لأنها كانت لغة جديدة لدى الناس.
أصل اللغة
وتقول دراسة أعدّها مركز حدود للدعم والاستشارات -إحدى المنظمات الحقوقية المعنية بإحياء التراث النوبي- إن نحو 30% فقط من قرى النوبة تتحدث اللغة الأصلية.
ووفق تقرير صادر عام 2017 عن مركز "هردو لدعم التعبير الرقمي"، تحت عنوان "القضية النوبية والحقوق الثقافية"، يبلغ عدد النوبيين في مصر نحو 4 ملايين شخص إلى جانب أكثر من 3 ملايين في الخارج.
ولا توجد إحصاءات رسمية بأعداد النوبيين في البلاد، إلا أن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لرئاسة مجلس الوزراء ذكر في تقرير عام 2012 أن عدد سكان نصر النوبة (المنطقة التي هُجّر إليها النوبيون في ستينيات القرن الماضي) نحو 85 ألف شخص.
أما سكان الجزر والنجوع المترامية على سفوح الجبال المطلة على النيل، فلا يوجد حصر حكومي لعددهم، فضلا عن عدم إحصاء المهاجرين إلى المحافظات المختلفة ومن هاجروا خارج البلاد.
وتعدّ المراجع الأكاديمية اللغة النوبية من أقدم اللغات البشرية، وهي لغة شفهية أي بلا أبجدية موثقة، وأدّى تاريخها الطويل إلى صعوبة وصول الباحثين إلى أصلها، فضلا عن حدوث كثير من التغييرات عليها بفعل الزمن.
ورغم أنها لغة لا تُكتب، فإن المعابد المصرية القديمة توثق للغة النوبية خلال عصور ما قبل الميلاد، إذ استخدم النوبي القديم حروف اللغة الهيروغليفية لنقش اللغة النوبية.
ومع الاحتلال الروماني لمصر استخدم النوبيون الحروف القبطية لكتابة لغتهم، ومع تتابع الأنظمة الحاكمة للبلاد ومرور الزمن تخلّت النوبية عن الأحرف القبطية لتعود مرة أخرى شفهية.
وتتكون اللغة النوبية من 24 حرفا، منها 4 صوتية خاصة بأهل النوبة، و17 حرفا ساكنا و5 متحركة، وحرفان نصف متحركين.
وتنحدر أصول متحدثي النوبية من 3 جماعات هي الكنوز والفاديجا والنوبيون العرب، وداخل الثلاثة أضلاع للمثلث النوبي العديد من القبائل التي تنصهر في جسد الجماعة الواحدة.
والجماعات الثلاث كانت قديما تُشكل النوبة السفلى -النوبة المصرية حاليا- التي تبدأ من قرية دابود المصرية جنوب مدينة أسوان إلى قرية أدندان بطول 350 كيلومترا.
أما النوبة العليا فتعيش فيها شريحة من تلك الجماعات مع عرقيات أخرى، وتبدأ جغرافيتها بحدود السودان مع مصر إلى قرية الدبة السودانية بطول 650 كيلومترا، أي إن النوبة القديمة كانت مساحتها نحو ألف كيلومتر.
وبتوقيع الاتفاق الثنائي بين مصر وإنجلترا عام 1899، أصبحت النوبة العليا ضمن الحدود السودانية.
شفرة الحرب
وقبل حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول عام 1973 كان الجيش المصري بحاجة إلى شفرة سرية للإبلاغ عن التعليمات بين القادة والضباط.
وعلى عكس الحيل السرية المعتادة في تلك المرحلة، لجأ قادة الجيش المصري إلى اللغة النوبية التي لا توجد لها مرجعية مكتوبة يمكن بها فهم متحدثها، وصاحب اقتراح استخدام النوبية شفرة هو الجندي النوبي أحمد إدريس، إذ طرح الفكرة على قائده الذي بدوره أبلغها للقيادات العليا التي اعتمدتها شفرة للجيش المصري.
وسرعان ما اختير 344 جنديا نوبيا يجيدون الحديث بلغتهم الأصلية ودُرّبوا على قاموس سري؛ فمثلا كلمة "أسلانغي" تعني ثعبان باللغة النوبية وتشير في الشفرة إلى العربة المجنزرة، وكلمة "أولوم" تعني تمساح بالنوبية وتشير في الشفرة إلى الدبابة، وكلمة "أوشريا" تعني اضرب.
لم يتوصل العدو الإسرائيلي إلى فك الشفرة النوبية، ولم يقدر من الأساس على تحديد نوعية اللغة المستخدمة بين العسكريين المصريين الذي خاضوا حرب أكتوبر وانتصروا.
التهجير والحداثة
وعلى مر التاريخ عاش النوبي في قرى بسيطة على ضفاف النيل يمتهن الزراعة والصيد محافظا على هويته، غير أن القرن الأخير وما شهده من تغير جغرافي لمنطقة النوبة وتطور تكنولوجي سلب من النوبيين كثيرا من تراثهم، وكان على رأسه لغتهم.
ومنذ بداية القرن الماضي، شرعت مصر في بناء موانع مائية على نهر النيل من ناحية الجنوب، تستطيع من خلالها تنظيم فيضانات المياه بما يناسب الحاجة.
ودفع بناء خزان أسوان عام 1902 ثم تعليته عامي 1912 و1933 إلى هجرة أهل النوبة من قراهم التي غرقت بسبب ارتفاع منسوب النيل، وكان آخر هذه الهجرات في أوائل الستينيات مع بدء مصر بناء السد العالي.
وبسبب السد العالي انتقلت كثير من الجماعات النوبية إلى منطقة داخل محافظة أسوان لكنها بعيدة عن النيل، وهي ما سميت لاحقا بـ"نصر النوبة"، في حين ظل عدد قليل من النوبيين يسكنون الجزر النيلية وسفوح الجبال.
وإثر ابتعاد النوبي عن بيئته النيلية واندماجه مع الثقافات المختلفة، بعدما ترك الزراعة والصيد وعمل في مجال السياحة، بدأ يفقد هويته تدريجيا بتخليه عن كثير من العادات القديمة.
ذلك كان له أثره في اللغة الأصلية إلى جانب دخول الأبناء المدارس الحكومية ودراسة المناهج باللغة العربية، فضلا عن مشاهدة التلفاز والتفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما خفف من استخدام النوبية على لسان الأجيال الجديدة.
محاولات للبقاء
التخوف من اندثار اللغة النوبية ترجمه بعض الناطقين بها إلى محاولات ساعية للإبقاء عليها بوسائل متعددة.
فقبل أكثر من 5 أعوام، أطلق مجموعة من الناشطين النوبيين أول قناة ناطقة باللغة النوبية على موقع يوتيوب تحت اسم "نوبة تيوب"، بهدف حماية التراث النوبي وتعليم اللغة الأصلية للأجيال الجديدة.
محاولة أخرى قام بها الشاب النوبي مؤمن طالوش الذي يعمل في مجال البرمجة، فدشن تطبيقا إلكترونيا "نوبي/Nubi" من أجل الحفاظ على اللغة النوبية.
ويتيح التطبيق دروسا لتعلم اللغة النوبية والاستماع إلى الأغاني التراثية إلى جانب عدد من الكتب والأمثال الشعبية النوبية.
كذلك مضت الشابة النوبية حفصة أمبركاب على طريق المحاولة، فنشرت كُتيبا يضم 230 كلمة نوبية نادرة الاستخدام أو مندثرة، في ما يشبه القاموس.
ويحتوي الكتيب على ترجمة للكلمات النوبية بـ3 لغات هي العربية والإنجليزية والإسبانية.