توعد بتفجير السد الإثيوبي.. عمر سليمان الصندوق الأسود حيا وميتا
القاهرة – في مثل هذه الأيام من عام 2012، أعلن الإعلام المصري عن وفاة مفاجئة للواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، والذي شغل منصب أول نائب للرئيس الراحل حسني مبارك في أواخر عهده إبان ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
رحل سليمان -الذي يصفه المصريون بالصندوق الأسود- بعد إصابته بمرض في الرئة بأحد مستشفيات الولايات المتحدة، وفق ما ذكرته آنذاك وكالة الأنباء المصرية الرسمية، بوقت كانت فيه البلاد تشهد تحولا ديمقراطيا وسياسيا كبيرا بعد الثورة التي أطاحت بنظام مبارك بعد 3 عقود في السلطة.
وكما عاش غامضا يحمل أسرار بلاده، توفي الرجل في جو أكثر غموضا، حيث لا تزال طبيعة وفاته محل تساؤلات، ففيما أكدت القاهرة في 19 يوليو/تموز 2012 أنه توفي بصورة طبيعية بعد معاناة مع المرض، ذكرت تقارير صحفية وقائد عسكري سابق خدم مع سليمان، أنه قُتل في تفجير بالعاصمة السورية دمشق استهدف اجتماعا ضم سليمان مع عناصر مخابرات من عدة دول أخرى.
كان سليمان، حالة استثنائية من بين مدراء جهاز المخابرات العامة المصرية منذ تأسيسها عام 1954، حيث استمر الرجل قرابة 20 عاما في المنصب، في حين أن غالبية أسلافه لم يعمروا في الجهاز أكثر من 3 سنوات (المدة القانونية)، خلافا لصلاح نصر (مدير الجهاز في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر والذي استمر 10 سنوات في منصبه).
وارتبط سليمان -منذ صعوده إلى قمة إدارة المخابرات العامة- برعاية الملف الفلسطيني الإسرائيلي، كما كان الرئيس الانتقالي المحتمل لمصر بعد الثورة.
من الجيش للمخابرات
لحساسية منصبه في مصر، ظل سليمان بعيدا عن أضواء الصحافة والإعلام حتى أواخر القرن الـ20 الماضي، ولا تزال المعلومات الموثقة عن تاريخه قليلة، خاصة تلك المرتبطة بفترة حياته الأولى قبل صعود نجمه داخل نظام الحكم.
غير أن تقارير صحفية محلية، تشير إلى أنه ولد في محافظة قنا، جنوبي البلاد عام 1936، وانتقل إلى القاهرة ليلتحق بالكلية الحربية، كما أوفد إلى أكاديمية فرونزا العسكرية في موسكو، وهي ذات الأكاديمية التي درس بها الرئيس السابق مبارك.
وبدأت صلة سليمان بالمخابرات في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، حين عُين نائبا لمدير المخابرات الحربية، ثم مديرا للمخابرات الحربية في 1991، وحتى مطلع 1993 حيث عين رئيسا لجهاز المخابرات العامة.
وبعد بضع سنوات نال سليمان ثقة مبارك المطلقة، بعد أن نجا الأخير من محاولة اغتيال استهدفته خلال زيارة لإثيوبيا لحضور مؤتمر القمة الأفريقية عام 1995، حيث كان سليمان هو من أشار على مبارك أن يصطحب معه سيارة مصفحة، وكان معه داخل السيارة حين تعرضت للهجوم من قبل مسلحين، فأخفقت المحاولة ولمع نجم سليمان، بحسب تقارير صحفية.
سد النهضة
وبمناسبة قضية سد النهضة في إثيوبيا، فإن الإعلامي والبرلماني مصطفى بكري نقل في كتابه "الصندوق الأسود عمر سليمان" عن سليمان قوله إن "مصر كانت ضد فكرة سد الألفية (النهضة) من الأساس"، وهو السد الذي تتخوف من تداعياته مصر على حصتها المائية من النيل الأزرق.
ووفق كتاب بكري فإن سليمان، أكد -في اجتماع (لم يوضح توقيته) بحضور مبارك ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي- أنه "إذا أصرت إثيوبيا على بناء السد رغما عن مصر سنضطر إلى تفجيره ونحن جاهزون".
تحول العقيدة المخابراتية
أمسك سليمان بملفات ومفاوضات الوساطة الفلسطينية الإسرائيلية وتبادل الأسرى والمصالحة الفلسطينية- الفلسطينية، وكان دائم الجولات الخارجية بين قطاع غزة ورام الله والقدس وتل أبيب.
وفي منتصف أبريل/نيسان 2012، اعتبر سليمان -في حوار مع صحيفة "اليوم السابع" المحلية- أن التعاون المصري الإسرائيلي في تصدير الغاز يرتبط عضويا بالأمن القومي المصري، وورقة لتحصين السلام مع إسرائيل.
ووفق تقارير غربية، فقد حظي سليمان بتفضيل الحكومات الأميركية، بسبب معاداته للإسلاميين سواء في مصر (الإخوان المسلمين) أو فلسطين (حماس وفصائل المقاومة)، كما أنه كان يعد المسؤول المفضل لدى تل أبيب.
كذلك كان الشخصية المحورية الموثوق بها في برامج الترحيل القسري السري الخاص بالمقاتلين الإسلاميين (مصريين وأجانب) ممن أسرتهم الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، في حين نقلت تقارير صحفية عن جماعات حقوقية أن سليمان كان ضالعا في عمليات تعذيب واسعة النطاق ضد المحتجزين.
وعقب وفاته، ذكر معهد "بروكنغز" (Brookings) -(وهو مؤسسة بحثية أميركية معنية بالسياسات العامة ومقرها واشنطن)- أن المهمة الرئيسية للمخابرات العامة المصرية تغيرت في عهد عمر سليمان، من التركيز على إسرائيل إلى التركيز على المعارضة وخاصة الإسلاميين، وزاد الأمر بالتنسيق مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.
وأشار إلى تقارير تفيد بتعذيب المواطنين المصريين والعرب لانتزاع معلومات لصالح أجهزة الأمن الأجنبية، وعلى الأخص وكالة المخابرات المركزية الأميركية، خلال إدارة سليمان لجهاز المخابرات العامة، والذي ظهر اسمه في العديد من البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي نشرها موقع "ويكيليكس".
خيوط الثورة
وفي سابقة تاريخية إبان حكم مبارك، اضطر الأخير -الذي ظل 30 عاما على رأس السلطة- في 29 يناير/كانون الثاني 2011 لتعيين سليمان نائبا له.
وفي اليوم التالي لتعيينه، تعرض سليمان لمحاولة اغتيال من قبل مجهولين، وذلك أثناء توجهه لزيارة مبارك قادما من مقر جهاز المخابرات العامة شرقي القاهرة، وفق ما ذكره في شهادته بمحاكمة مبارك.
وفي 11 فبراير/شباط 2011، تلا عمر سليمان البيان التاريخي بتخلي مبارك عن منصبه وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.
وبعد تنحي مبارك، سعى سليمان للابتعاد عن الأضواء، قبيل استدعائه للواجهة من جديد أثناء القضية المعروفة بـ "محاكمة القرن"؛ حيث تم استدعاؤه كشاهد في جلسة سرية أواخر 2011، لسماع أقواله حول تورط مبارك في قتل المتظاهرين أثناء أحداث الثورة.
وذكرت صحف محلية في صيف 2012 أن سليمان قال في شهادته السرية إن "مبارك لم يأمر بالتعامل مع المتظاهرين".
ولم يحظ عمر سليمان -عقب رحيل مبارك عن السلطة- بشعبية لدى بقية العسكريين، كونه من المخابرات وليس من الجيش، وهو ليس محبوبا بينهم، لكن الجيش يعرف أيضا أنه غير مقبول للناس كبديل لمبارك، وفق ما ذكرته شبكة "سي إن إن" (CNN) الأميركية أواخر 2020، وذلك نقلا عن رسائل البريد الإلكتروني التي نشرتها الخارجية الأميركية على موقعها للوزيرة السابقة هيلاري كلينتون.
غدر الحلفاء
بعد سقوط مبارك حاول سليمان العودة إلى السلطة عبر الترشح في أول انتخابات رئاسية حرة تشهدها البلاد، رغم حالة الرفض الشعبي الكبير لعودة عناصر نظام مبارك وقتها.
غير أن اللجنة العليا للانتخابات قررت استبعاده، بعدما أكدت أنه لم يتمكن من الحصول على دعم من 15 محافظة كما نص قانون الانتخابات وقتها، لكن بفارق ضئيل تم تقديره بعشرات التوكيلات فقط، وهو ما أثار تساؤلات وتشكيك في حقيقة أن يكون سليمان لم يتمكن من جمع العدد المطلوب من التوكيلات.
وفي حوار مع بوابة أخبار اليوم (الحكومية) -في صيف 2013- قال وكيل جهاز المخابرات العامة السابق اللواء ثروت جودة إن عمر سليمان "تعرض لغدر يهد جبال مرتين".
المرة الأولى -وفق جودة- حين كان نائبا لمبارك، حيث أزاحه المجلس العسكري عن المسؤولية، على الرغم من اتسامه بقدر عال من العلاقات الخارجية والسيطرة داخل مصر.
والثانية -بحسب جودة- تتمثل في استبعاده عن قصد من المنافسة في الانتخابات الرئاسية من قبل المجلس العسكري ولجنة الانتخابات.
وقال جودة إن المشير حسين طنطاوي -وزير الدفاع وقتها- "لم يكن يريد نجاح سليمان في هذه الانتخابات".
وفاة غامضة
كما عاش غامضا توفي الرجل في جو أكثر غموضا، حيث لا تزال طبيعة وفاته محل تساؤلات، رغم تأكيد الإعلام الرسمي على طبيعة الوفاة.
وفي لقاء متلفز، ذكر اللواء السابق محمود زاهر -الذي سبق أن خدم مع سليمان- أن الأخير قتل في سوريا، وتحديدا في تفجير تم داخل مركز المخابرات السورية ومعه مسؤولون سوريون ومجموعة من عناصر مخابرات عدة دول أخرى.
لكن اللواء حسين كمال -سكرتير سليمان والذي ظهر خلفه في المشهد الشهير إبان إعلان تنحي مبارك- نفى تصريحات زاهر، مؤكدا أنها مزاعم.
كما ذكر مصطفى بكري في كتابه عن عمر سليمان أن الحالة المعنوية والنفسية للأخير كانت "في أدنى درجاتها بعد استبعاده من الانتخابات الرئاسية، فبدأ المرض يحاصره وتراجع وزنه كثيرا".
ونقل بكري في كتابه عن رانيا ابنة الجنرال الراحل قولها إن "أباها عندما سمع بوصول مرشح الإخوان محمد مرسي للحكم، كان حزينا للغاية وتدهورت حالته الصحية في اليوم التالي لإعلان النتيجة، 25 يونيو 2012".
لكن بكري رأى أنه لا أحد يستطيع الجزم حتى الآن بما إذا كان عمر سليمان قد مات موتا طبيعيا، أم أنه تعرض لعملية قتل متعمد خلال إجرائه فحوصا طبية بمستشفى كليفلاند بالولايات المتحدة، نافيا في الوقت ذاته صحة رواية اغتياله في سوريا.
وتوفي سليمان في مستشفى كليفلاند الأميركي، وتكفلت دولة الإمارات بالتنسيق مع المخابرات العامة المصرية بنقل جثمانه إلى القاهرة على متن طائرة إماراتية، حسبما جاء في كتاب بكري.