وسط تصعيد سياسي وتباعد المواقف.. إلى أين تتجه أزمة سد النهضة؟

ربما تواجه المنطقة سيناريوهات كارثية إذا لم يتدخل المجتمع الدولي لفرض حلول وسط في أزمة سد النهضة على قاعدة الكل رابح، ولأن عقدا كاملا مضى من دون التوصل لحل، مع اكتمال بناء السد واستنفاد كل الفرص في الحوارات والتفاهمات.

سد النهضة الإثيوبي
إلى أين تتجه أزمة سد النهضة الإثيوبي مع اقتراب الملء الثاني للسد؟ (مواقع التواصل)

مضى عقد من الزمان منذ تفجر أزمة سد النهضة الإثيوبي، ولم تتمكن الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) من الوصول إلى حل مرضٍ، رغم توقيعها عددا من الاتفاقيات الثنائية والثلاثية، ولم تفلح الوساطات الدولية والإقليمية في إقناع أطراف النزاع بحل ناجع.

وظلت المشكلة تراوح مكانها، في حين تمضي إثيوبيا في الخطط التي رسمتها، سواء في ما يخص بناء السد أو ملء المراحل الأولى، من دون الحاجة لاتفاق مع أطراف النزاع.

فكيف وقعت مصر والسودان في فخ حسن النوايا، وحاصرتا نفسيهما، وأصبحتا تحت رحمة إثيوبيا؟ وما حظوظ مصر والسودان في تحقيق ما يأملانه؟ وإلى أين يتجه النزاع؟

رأس جبل الجليد الذي لم تتأمله مصر والسودان

طرحت دول حوض النيل اتفاقية أطلقت عليها "اتفاقية عنتبي" في 2011، وحملت إشارات الإنذار الأولى لدول المصب، وهي رفض دول الحوض ما تتمسك به مصر والسودان تحت اسم "الحقوق التاريخية والمكتسبة"، وما تصفه دول الحوض الأخرى بأنها اتفاقيات استعمارية ولا تعنيها في شيء، وطرحت بدلا منها مصطلح "الاستخدام المنصف".

كانت المؤشرات واضحة منذئذ بالنسبة لفلسفة إثيوبيا في التعامل مع الأمر، ولكن ربما حالت دون فهمه الظروف التي كانت تعيشها مصر في تلك الفترة، أو قراءات مختلفة لما يمكن أن تؤول إليه الأحوال في صيرورتها المقبلة، إذ إن السودان كان موليا قبلته صوب إثيوبيا آنذاك، ومبشرا بالفوائد الجمة التي تنتظر السودان من مشروع السد.

وثيقة المبادئ اعتراف بلا مقابل

كانت اللحظة التاريخية التي ما حلمت بها إثيوبيا هي توقيع مصر والسودان وثيقة المبادئ في 2015، بعد تعثر كثير من الحوارات والمفاوضات حول السد، وصدرت بذلك شهادة الميلاد الحقيقية لمشروع السد.

ومضت إثيوبيا في التنفيذ بهذا الاعتراف الضمني من الدولتين، رغم احتجاج مصر حينها على تجاهل إثيوبيا مطالبها في مراجعة الدراسات الفنية للسد عبر مشاركة دولية، حيث لم تصر مصر -كما فعلت مع اتفاقية "عنتبي"- على أن تنص على الحقوق التاريخية والمكتسبة، وهو ما يعتبره المراقبون هدية السماء لإثيوبيا، مما منحها صك بناء السد.

التفاوض والفشل المتكرر

بدأت الدول الثلاث جولات التفاوض منذ إعلان إثيوبيا نيتها لبناء السد في 2011، ولكن لم تفلح في الوصول إلى تفاهمات من شأنها تقريب وجهات النظر، ومن ثم الوصول إلى حلول مرضية لجميع أطراف الأزمة، وذلك للبون الشاسع بين رؤية الأطراف للحل، وتمسك كل طرف برؤيته، والتشبث بما يراه مصالح لا تقبل التفاوض.

جهود الاتحاد الأفريقي

ظلت المفاوضات في أزمة سد النهضة تراوح مكانها رغم تدخل الاتحاد الأفريقي على مدى 3 دورات متتالية (رئاسة كل من مصر وجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية الرئيس الحالي للاتحاد) من دون أن تتمكن جهود الاتحاد من الوصول إلى حل يرضي الأطراف المتنازعة، سواء بالتوافق أو بالضغوط، وهو ما يعبر عنه بعض المحللين بأنه خلل في منظومة الاتحاد الأفريقي في انعدام آليات ملزمة لأعضائه في مثل هذه الظروف، فقد جرت مفاوضات متعددة راقبتها آليات دولية، ولكن مصيرها كان الفشل.

الجهود الدولية والرفض الإثيوبي

لعبت الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب دورا في الوساطة بين الدول الثلاث، وبعد مفاوضات طويلة انتهى الأمر برفض إثيوبيا التوقيع على صيغة الاتفاق الذي أعدته واشنطن بالتعاون مع البنك الدولي ووزارة الخزانة الأميركية.

ووقعت مصر على الاتفاق بالأحرف الأولى، ووافق عليها السودان، غير أنه ربط التوقيع عليها بتوقيع إثيوبيا قبله، مما جعل ترامب يصرح بأن لمصر الحق بعد هذا في ضرب السد تعبيرا عن التعنت الإثيوبي، وما يلاحظ هنا هو رفض إثيوبيا أي محاولات لتصعيد الأزمة إلى المستوى الدولي، خوفا من عواقب رفض القرارات الدولية.

المشهد الراهن وطبيعة مواقف الأطراف

الحقيقة الماثلة الآن هي أن إثيوبيا رفضت كل مقترحات الحلول التي وردت من مصر والسودان أولا، ورفضت مقترحات الاتحاد الأفريقي ثانيا، والمبادرة الأميركية ثالثا، وترفض طلب دول المصب بتدخل المجتمع الدولي، وتمضي غير عابئة بتصريحات خصومها في مصر والسودان.

وكلما اقترب ملء مرحلة من المراحل تتصاعد التصريحات من القاهرة والخرطوم من دون تأثير يذكر على الموقف الإثيوبي، فما مواقف الأطراف؟ وإلى أين تتجه الأزمة إذا أصرت إثيوبيا على الملء كما تصر وتؤكد باستمرار:

الموقف المصري.. أضعف الحلقات

تدعو مصر، بل وتلح، وتقاتل من أجل إبرام اتفاق ملزم في ما يخص الملء والتشغيل وتبادل المعلومات وفترات الجفاف، وهو ما تعتبره إثيوبيا أمرا صعب المنال، لأنه يعد تدخلا في الشؤون السيادية للبلاد، وتستخدم مصر دبلوماسية التصريحات ذات السقف العالي والتهديد والوعيد إذا لم تلتزم إثيوبيا باتفاق ملزم يحفظ لها حقها التاريخي والمكتسب، الذي لا تعيره إثيوبيا أدنى اهتمام.

وإلى هذه اللحظة فقد استنفدت مصر كل الفرص الممكنة للوصول عبر الحوار والتفاوض المباشر وغير المباشر، ولم يتبق أمامها سوى الهيئات الدولية أو استخدام القوة العسكرية، وهو أمر قد لا يحقق لها ما تريده، لعدم وجود قوانين ملزمة على المستوى الدولي لمثل هذه الأزمات، وصعوبة استخدام القوة العسكرية خوفا من التداعيات التي قد تتسبب فيها.

السودان وتبدل المواقف

حدث تحول كلي في الموقف السوداني من أزمة سد النهضة؛ ففي عهد الرئيس عمر البشير كان موقف السودان أقرب إلى الموقف الإثيوبي، أو على وجه الدقة كان موقفا براغماتيا يبحث عن مصالح السودان من السد، وكان الخبراء السودانيون يعددون فوائد السد بالنسبة للسودان في الكهرباء الرخيصة، وتقليل كميات الطمي في الخزانات السودانية، وانتظام واستقرار الملاحة النهرية، والاستفادة القصوى من نصيبه في مياه النيل، هذا غير انتظام جريان الماء على مدار العام، مما يساعد على زيادة دورات الزراعة وغيرها.

وفجأة، تبدل الموقف تماما، وأصبح متماهيا مع موقف مصر، المتضرر الحقيقي من السد، وفي بعض الأحيان يتفوق الموقف السوداني على المصري في تشدده، وبدت التصريحات الأخيرة تتحدث عن خطورة السد على 20 مليون سوداني، والمطالبة بالتدخل الدولي بعد الإعلان عن فشل الاتحاد الأفريقي في الوصول للحل، حيث تتهم إثيوبيا السودان بأنه يعمل لصالح طرف ثالث، أحيانا بالتلميح، وأحايين أخرى بالتصريح.

الموقف الإثيوبي.. ثبات ومراوغة

يتسم الموقف الإثيوبي في أزمة السد بالثبات على مبدأ أن "السد شأن إثيوبي إستراتيجي لا يقبل التنازل"، وتتعامل أديس أبابا بدبلوماسية الأمر الواقع، وسياسة كسب الوقت، وتكتيكات مرنة يبقيها في سياق التفاوض، ويعطيها فرص الاستمرار، وعدم التوقف على مستوى البناء وخطط ملء السد، إضافة إلى استخدامها ملف السد في حشد التأييد الداخلي، وتوظيفه لصالحها بشكل كبير.

ينطلق الموقف الإثيوبي في التعنت من علمها المسبق بعدم وجود اتفاقيات ملزمة وحاسمة على مختلف المستويات، مع التصريح المستمر بأنها لن تتسبب في ضرر لأي دولة في مجرى النيل.

وترفض إثيوبيا أي وساطة خارج الإطار الأفريقي، تفاديا لأي ضغوط دولية تجبرها على تقديم تنازلات لا ترى أي ضرورة لها، في الوقت الراهن على وجه الخصوص، فقد رفضت الوساطة الأميركية، ورفضت طلب السودان لتدخل الوساطة الرباعية (الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومجلس الأمن الدولي)، كما رفضت طلب مصر برفع ملف السد إلى مجلس الأمن الدولي، مع إصرارها الدائم على عدم التوقف عن تحقيق مرادها في البناء والتعبئة.

إلى أين تتجه الأزمة؟ وماذا بقي لمصر والسودان من خيارات؟

يتضح من سياق تحليل المواقف مجتمعة محدودية الفرص، التي يمكن وصفها بالعدم، ذلك أن إثيوبيا تتخذ من أسلوب المماطلة وكسب الوقت طريقا للوصول إلى أهدافها، وها هي تقترب من الملء الثاني والقضية تراوح مكانها، وليس هناك ما يجبرها على الوصول إلى صيغة الاتفاق الذي ترغب فيه مصر والسودان.

ويتشدد الموقف الإثيوبي لاتهامها مصر والسودان بدعم المعارضة في تيغراي وبني شنقول، وربما جيش تحرير الأرومو النشط في الإقليم، وزعزعة الاستقرار فيها، وتصريحها بأنها تخطط لبناء 100 خزان إضافي، وغيرها من التصريحات مثل "ليست هناك قوة في الأرض تمنعنا من استخدام مياهنا".

على صعيد مصر والسودان، يبدو أنه لم يتبق أمامهما سوى اللجوء لمجلس الأمن الدولي، بحثا عن حلول تخفف من تشدد الموقف الإثيوبي، ويضمن لهما التزاما ولو بسقف أدنى؛ إذ لم يعد من الممكن المضي على المواقف القديمة ذاتها، والمرفوضة من قبل الأغلبية العظمى من دول حوض النيل التي ترفض الاتفاقيات القديمة.

ولم يتبق لمصر غير البحث عن بدائل أخرى غير استجداء إثيوبيا، التي بدأت فيها عمليا؛ مثل إعادة ملف قناة جونقلي في جنوب السودان، التي توفر 13 مليار متر مكعب حسب الدراسات السابقة، ومحاولة مصر الاستفادة من نهر الكونغو.

أما السودان، فليس هناك ضرر واضح يقع عليه، بل قد تكون للسد فوائد كثيرة، ولكنه آثر الذهاب شمالا مؤيدا لمصر في معركتها المصيرية الخاصة بسد النهضة.

خلاصة

في ظل انعدام قوانين ملزمة على مستوى الاتحاد الأفريقي، وعلى المستوى الدولي، في مثل هذه القضايا؛ ستظل القضية رهينة قدرة وامتلاك كل طرف أوراق ضغط تجبر الطرف الآخر على قبول الحل الوسط.

وفي حالة سد النهضة، فإن مصر هي المعنية أكثر من السودان باعتبار الضرر الأكبر الذي قد تواجهه مستقبلا، ولذا عمدت إلى تغيير الموقف السوداني الذي يتقاطع مع إثيوبيا في عدد من الملفات المهمة، ونجحت بدرجة كبيرة، ولكن من دون الوصول إلى مستوى إذعان إثيوبيا بالقبول والتنازل.

خلاصة القول.. إن المنطقة ربما تواجه سيناريوهات كارثية إذا لم يتدخل المجتمع الدولي لفرض حلول وسط على قاعدة الكل رابح، ولأن عقدا كاملا مضى من دون التوصل لحل، مع اكتمال بناء السد واستنفاد كل الفرص في الحوارات والتفاهمات.

المصدر : الجزيرة