الانسحاب من أفغانستان يؤشر لعهد جديد من إستراتيجية أميركا في التدخل الخارجي

يعتقد فريق من خبراء إستراتيجية السياسة الخارجية الأميركية أن تزامن تدخل بلادهم في أفغانستان عام 2001 مع انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، يمثل نقطة مفصلية في مسار الدولتين لعقدين من الزمان.
فقد دفع التدخل في أفغانستان، ومن بعده التدخل في العراق عام 2003، إلى تورط الولايات المتحدة في مستنقعات الشرق الأوسط بطريقة طوعية أضرت بها، ولم تخدم مصالحها، في حين سمح انضمام الصين لمنظمة التجارة الحرة بفتح أسواق العالم والولايات المتحدة أمام المنتجات الصينية المختلفة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsكاتب بريطاني: الغرب سيحتفل بهزيمته في أفغانستان بسبتمبر المقبل
لوبوان: الساحل أفغانستان فرنسا.. فلتنسحب منه أسوة بأميركا
لوموند: بعد 20 عاما من التدخل.. أميركا حولت أفغانستان إلى دولة مخدرات
وسمح هذا لبكين ببناء قوتها الاقتصادية والعلمية والعسكرية، بما أصبح يمثل تهديدا أساسيا أمام طموح واشنطن لقيادة العالم خلال بقية القرن الحادي والعشرين.
وخلال خطابه الأول للجلسة المشتركة لمجلسي الكونغرس مساء الأربعاء الماضي، عبّر الرئيس جو بايدن عن رؤية إستراتيجية جديدة تركز فيها بلاده على منافسة الصين، واحتواء روسيا، ولم يتطرق لقضايا لشرق الأوسط التقليدية.
ومثّل قرار بايدن باستكمال انسحاب قوات بلاده من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول المقبل مؤشرا على توجه إستراتيجي جديد، يتضمن مراجعة جدوى انتشار القوات الأميركية حول العالم، وظهر ذلك بوضوح خلال جلسات الحوار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأخيرة، والتي بحثت في جدول وكيفية استكمال خروج القوات الأميركية من العراق.
ويتماشى ذلك مع ما غرد به وزير الدفاع الجنرال لويد أوستن قبل أسابيع حين ذكر أنه و"بتوجيه من الرئيس جو بايدن، سأقود مراجعة انتشار قواتنا المسلحة في جميع أنحاء العالم. علينا التأكد أن لدينا القوات المناسبة في الأماكن الصحيحة، وأن ندعم دبلوماسيينا".
Per direction from @POTUS, I’ll be leading a Global Posture Review of U.S. military forces around the world so our footprint aligns with our national interests. We need to make sure we have the right capabilities in the right places & we are supporting the work of our diplomats. pic.twitter.com/wT6YER6pOv
— Secretary of Defense Lloyd J. Austin III (@SecDef) February 5, 2021
وأعلن البيت الأبيض رسميا بدء عملية الانسحاب من أفغانستان، وأمر أوستن بنشر مؤقت لقوات خاصة بغرض توفير حماية لعملية الانسحاب، في حين ستُقيّم القيادة المركزية الوسطى للجيش الأميركي عملية الانسحاب، وسيكون بإمكانها زيادة قوة الحماية وفق الحاجة لذلك.
ولم يستبعد البنتاغون إرسال تعزيزات أخرى للمشاركة في العملية اللوجستية الهائلة المتمثلة بسحب نحو 2500 عسكري أميركي، يضاف إليهم أكثر من 16 ألف متعاقد مدني مع تجهيزاتهم.
علاوة على ذلك، سيشمل الانسحاب قرابة 7 آلاف عسكري من حلف شمال الأطلسي يعتمدون -إلى حد بعيد- على الجيش الأميركي في نقل الأسلحة والعتاد.
أفغانستان مجرد بداية
واعتبرت دراسة صدرت عن معهد كوينسي بواشنطن أن إستراتيجية الولايات المتحدة المصاحبة لسحب القوات من أفغانستان ينبغي أن تقوم على أسس ثلاثة، ولا تقتصر بالضرورة على الحالة الأفغانية فقط، وهي:
أولا، الانسحاب عسكريا والبقاء دبلوماسيا، ويفترض هذا الأساس أن إبقاء قوات أميركية في أفغانستان يُظهر واشنطن كمحرك للصراع وضامن للأمن، وهذا يحبط التوصل إلى حل وسط، لأن المصالح الأميركية على المدى القصير لا تتماشى مع مصالح الحكومة الأفغانية وحركة طالبان والجهات الفاعلة الإقليمية.
ويعد الانسحاب عسكريا من أفغانستان خطوة صعبة، ولكنها ضرورية نحو تبني سياسة تعتمد على الدبلوماسية والمساعدات المستدامة. وينبغي للولايات المتحدة أن تظل منخرطة دبلوماسيا في عملية السلام الأفغانية، وأن تستخدم نفوذها الدبلوماسي لتشجيع الجهات الفاعلة الإقليمية والمحلية على الدفع قدما بالتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض.
ثانيا، دعم تسوية عن طريق التفاوض، مع قبول أن هناك حدودا للنفوذ الأميركي، والتأكيد على أن التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض بين الفرقاء الأفغان هو الخيار الأفضل لحل 4 عقود من الحرب الأهلية.
في الوقت ذاته من المهم أن يكون هناك إدراك واقعي بشأن آفاق نجاح التفاوض خاصة مع فشل كل المحاولات السابقة.
ثالثا، جعل مكافحة الإرهاب عملية إقليمية ومحلية بدلا من آلية التدخل الأميركي، وربما ما يزال هناك تهديد إرهابي محتمل من الأراضي الأفغانية، كما هي الحال من العديد من البلدان غير المستقرة سياسيا، ولكن الإستراتيجية التي تركز على التعاون الأمني الإقليمي ضد التهديدات المشتركة، أو تعمل على تقوية القوى المحلية المناوئة للإرهاب هي أكثر فعالية من حيث التكلفة وأقل خطورة في نهاية المطاف من بديل البقاء في أفغانستان إلى أجل غير مسمى.
خبرة بايدن الطويلة
شاهد بايدن ثلاثة من الرؤساء يحددون أهدافا طموحة لبلادهم في الخارج، لكنهم تورطوا في معارك طويلة الأمد ومستمرة النزيف. والآن بعد أن أصبح هو الرئيس، فإن بايدن مصمم على تجنب المصير نفسه.
ويرى بايدن أن الحرب ضد طالبان تشكل عائقا أمام الحاجة إلى التعامل مع التهديدات الأكبر مثل الصين، وتغير المناخ، ومواجهة وباء كورونا، وحتى خطر الإرهاب الذي قد تغير بشكل كبير منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001، لدرجة أن هناك تهديدات إرهابية محلية كما عبرت عن نفسها في اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي.
وعاصر بايدن محاولات فاشلة لثلاثة رؤساء سابقين لم يترجموا وعودهم بالانسحاب من أفغانستان، جورج بوش وباراك أوباما ودونالد ترامب، وكان بايدن نائبا للرئيس عندما انتهى الأمر بأحدهم، باراك أوباما، إلى توسيع الوجود العسكري في أفغانستان بدلا تخفيضه.
وعارض بايدن مبكرا خطة البنتاغون لزيادة القوات الأميركية في أفغانستان عام 2009، وهو العام الأول لإدارة أوباما وبايدن، وحافظ على شكوكه مع تضخم الحرب.
والآن يتمتع بايدن بفرصة التصرف بناء على آرائه الراسخة منذ فترة طويلة، فقد خدم بايدن في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ لما يقرب من 30 عاما، وفهم تعقيدات صنع القرار في الشأن الخارجي، وتكلفة عدم اتخاذ قرارات حاسمة.
ويؤمن بايدن بأن مواجهة تهديدات وتحديات عام 2021 تختلف كلية عن تحديات عام 2001، ومن هنا تحتاج الولايات المتحدة إلى تركيز طاقتها ومواردها لمواجهة التهديدات والتحديات الأكثر حدة بالنسبة لها.
ويعكس تحرك بايدن الحاسم تجاه الوجود العسكري في أفغانستان، جهود إدارته لخفض أولوية الشرق الأوسط على سلم الأولويات الأمنية الأميركية، باستثناء التركيز على البرنامج النووي الإيراني.
وقد نأى بنفسه عن زعماء حلفاء واشنطن التقليديين خاصة في الرياض وتل أبيب، ولم يتخذ أي خطوات لبدء محادثات سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما يتناقض مع العديد من أسلافه الذين تسلموا مناصبهم وقرر كل منهم أن يكون الرئيس الذي يجلب السلام إلى الشرق الأوسط.
وعلى عكس معظم الرؤساء مؤخرا، جاء بايدن إلى البيت الأبيض بخبرة دامت عقودا في مشاهدة الرؤساء الآخرين ينجحون ويفشلون، وقد أوضح أنه يحاول تعلم الدروس من تجاربهم.
فوائد إستراتيجية كبرى
من جانبه، اعتبر المحلل الأمني في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان أن الانسحاب الأميركي ستكون له "فوائد إستراتيجية كبيرة"، في منطقة لا توجد بها "مصالح أميركية ضخمة".
وكتب كوردسمان "ستكون مأساة، لكن الوقت قد حان للمعادل الإستراتيجي للقتل الرحيم".
وأضاف أنه في أسوأ الأحوال، لا تشكل أفغانستان سوى واحدة من العديد من مصادر التهديد المحتملة لمصالح الولايات المتحدة والحلفاء.
وبناء على ذلك، فإن هناك 3 فوائد للانسحاب، الفائدة الأولى هي نقل عبء أفغانستان وتركيز أي نشاط متطرف خارج حدودها إلى الصين، وروسيا وإيران. والثانية هي تحرير موارد الولايات المتحدة للتعامل مع العديد من مراكز عدم الاستقرار والتطرف خارج المنطقة، والمراكز التي يمكن أن تكون فيها الموارد الأميركية أكثر فعالية بكثير.
والفائدة الثالثة -حسب رأيه- أن حالة أفغانستان ستكون مثالا لما يجب أن يكون عليه الانسحاب الأميركي. ويتعين على الولايات المتحدة أن توضح أن مساعداتها ودعمها سيكونان مشروطين بالكفاءة والنزاهة.
وأوضح كوردسمان أنه يجب أن تصبح المشروطية هي الأداة الأساسية في تقديم الدعم الأميركي، وأن تصبح هي الطريقة الرئيسية التي تقيّم بها واشنطن تعاملها مع الحكومات الفاشلة أو ذات المصداقية المنخفضة.