قتل واعتقال وتشريد.. لماذا لم يستفد العراق من علمائه النوويين وماذا حلَّ بهم؟
برنامج الاستعمالات السلمية للطاقة النووية بدأ في العراق عام 1956

يرجع تاريخ البرنامج النووي العراقي إلى منتصف خمسينيات القرن الماضي، عندما بدأت تفاهمات أولية مع الاتحاد السوفياتي لبناء مفاعل يستخدم للأغراض السلمية.
وبعد نحو عقد من المناقشات بنى السوفيات مفاعل بحوث نووية قرب بغداد، ومحطات لإنتاج النظائر المشعة، واستمر تطوير البرنامج النووي إلى أن قصفت إسرائيل مفاعل تموز النووي عام 1981، ليقتصر البرنامج العراقي بعدها على البحوث التطويرية.
وبعد عام 2003 تعرض رجالات النووي العراقي إلى حملات من الاغتيال والاعتقال والنفي، والقليل منهم تمت الاستفادة منهم في دول عديدة.

محطات النووي العراقي
بدأ برنامج الاستعمالات السلمية للطاقة النووية في الدول النامية في العراق عام 1956، عندما أهدت الولايات المتحدة العراق مكتبة تحتوي على معلومات نووية ومفاعلا تجريبيا صغيرا، لكن مع سقوط النظام الملكي عام 1958 ساءت العلاقات العراقية الأميركية فتم تحويل المفاعل إلى إيران في عهد الشاه، بحسب الدكتور فاضل الجنابي الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية العراقية.
ويضيف للجزيرة نت، أنه في عام 1959 اتفق العراق مع الاتحاد السوفياتي على إقامة المشروع النووي في منطقة التويثة قرب بغداد، وتم الانتهاء من بنائه وتشغيله عام 1967، ومع تغيّر النظام العراقي ومجي حزب البعث بعد انقلاب 1968 بقي هذا المفاعل يعمل ولكن بطاقة قليلة، حتى جاء اتفاق عام 1975 مع فرنسا لبناء مفاعلين جديدين باسم "تموز" وقدرتها 40 ميغاوات.
ويكشف الجنابي عن وجود اتفاق مع إيطاليا لبناء 3 مراكز نووية، أحدها لتصنيع الوقود النووي، والآخر لاستخلاص البلوتونيوم، ومشروع لإنتاج اليورانيوم في منطقة عكاشات غرب محافظة الأنبار.
ورغم أن منطقة التويثة هي المكان الرئيسي فقد كانت هناك مواقع مساعدة في الموصل وجرف الصخر والطارمية ومنطقة قرب النجف والزعفرانية وغيرها.
وفي 7 يونيو/حزيران عام 1981 قصفت طائرات إسرائيلية المفاعل الفرنسي في العراق وتم تدميره، وبعدها استمر البرنامج النووي العراقي بالاعتماد على المفاعل الروسي الأقل طاقة، على حد قول الجنابي.

أهمية مفاعل تموز
لمفاعل تموز أهمية كبيرة في تهيئة الكوادر العلمية العراقية والعربية -كما يضيف الجنابي- حيث كان من المؤمل أن يكون مركزا للبحوث على مستوى الوطن العربي، للعمل فيه والتعرف على تفاصيل التكنولوجيا النووية والمواد المستخدمة فيها.
ويتابع القول "كان مفاعل تموز يستخدم وقودا مخصبا بنسبة 93%، وللمفاعل ملحقات كبيرة منها أماكن خاصة للتعامل مع المواد المشعة، إضافة إلى ورشات التدريب فهو مركز بحثي كبير جدا"، لافتا إلى مساهمة 3 علماء مصريين في المفاعل العراقي.
وفي السياق ذاته يذكر الكاتب والباحث العراقي صادق الطائي أن مفاعل تموز أنشئ للأغراض السلمية ويشتمل على مفاعل بحوث من نوع الحوض المائي بطاقة 40 ميغاوات، وهو مشابه لمفاعل أوسيريس (Osiris) في مركز بحوث ساكلي جنوب باريس، لذلك عرف مفاعل (17 تموز) العراقي في الوثائق الفرنسية باسم أوزيراك (Osirak).
ويلفت الطائي للجزيرة نت أنه كذلك تم تجهيز العراق بمفاعل صغير بقدرة 500 كيلووات للبحوث والدراسات.
ويضيف الطائي -الذي كان مهندسا سابقا في منظمة الطاقة الذرية- أن موقع المفاعل كان يشتمل بناية الفحوصات الحارة (LAMA) لإجراء فحوصات المواد المشعة والمشععة، كما يضم ورشة منظومات التجارب على القنوات العمودية (LWB)، ومحطة معالجة النفايات المشعة (RWTS)، كما حصل العراق من إيطاليا على مفاعل أبحاث صغير عرف باسم مفاعل 30 تموز عام 1976.
ويتحدث الجنابي عن إنجازات علمية مهمة حققها علماء العراق حينذاك وجرى إعداد بحوث تكنولوجية كبيرة في مجالات الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، وقامت بنشرها المجلات العالمية.
ويضيف الرئيس السابق لهيئة الطاقة الذرية العراقية أن هدف العراق خلال التسعينيات هو المحافظة على علماء الطاقة الذرية وتطوير خبراتهم ونقلها إلى جيل آخر، ومن ذلك مشروع الألف طالب الذي يتضمن تخريج ألف طالب بشهادات الماجستير والدكتوراه في مجال الطاقة النووية السلمية.
ويقدّر الجنابي إنفاق الدولة نحو 4 ملايين دولار تخرج كل عالم -في مختلف التخصصات- وتشمل هذه المصاريف سنوات الدراسة خارج العراق والتدريب المكثف عالي المستوى واستخدام الأجهزة المتطورة وحضور المؤتمرات العالمية.

مصير الخبراء
ويبيّن الجنابي أنه كان يعمل في البرنامج النووي العراقي نحو 6 آلاف عراقي، يقودهم علميا الدكتور جعفر ضياء جعفر، حيث كانت تتم جميع مراحل التخصيب بإشرافه ويعمل معه مجموعة من الخبراء، وكل خبير له دوره، أما رئيس الطاقة فمهمته العمل الإداري لإدارة المشروع بشكل كامل.
وحول مصير الكوادر العراقية يقول إن قسما منهم تعرضوا للقتل والتصفية، من قبل الموساد وعملاء المخابرات الأجنبية مع بدايات غزو العراق، والقوات الأميركية هي من فتحت لهم الطريق.
ويشير إلى أن القسم الآخر قبض عليهم وسجنوا، وآخرون استطاعوا الهجرة إلى كل أنحاء العالم، واستطاع البعض الحصول على عمل في الدول المستضيفة في مجال اختصاصهم وليس في برامج نووية.
ويسترسل بالقول "قليل من الدول العربية استقبلت هؤلاء الخبراء، ومعظمهم غادر إلى سوريا وقتها، وأنا استطعت الهروب إلى هذا البلد أيضا في ديسمبر/كانون الأول 2003".
ويبدي الجنابي أسفه لعدم الاستفادة من الخبراء العراقيين، ويعطي مثلا أنه بعد احتلال ألمانيا عام 1945 عمدت روسيا وحتى أميركا والبلدان الأخرى إلى الاستفادة من العلماء الألمان ولم يقتلوهم، على عكس العلماء العراقيين الذين تعرضوا للقتل والطرد بعد عام 2003.
ويرى أن هذا المخطط لم يكن عفويا، بل كانت خطة إنهاء الكوادر العلمية معدة مسبقا، ففي مباحثات الوكالة الدولية للطاقة الذرية قبل الغزو والتي كانت تناقش قضية العراق آنذاك، كان الأميركيون يريدون إبعاد الكوادر العلمية العراقية مدة 20 سنة وبعدها إما يموتون أو يفقدون القيمة العلمية.
وينوه إلى أن خطة التخلص من الخبراء العراقيين جاءت بعد فشل الغرب في استقطاب علماء العراق، عندما أصدرت واشنطن آنذاك قرارا باستقبال العلماء الهاربين من العراق، وكان الأميركيون قبل الغزو يطلبون أسماء العلماء العراقيين وأماكن عملهم داخل العراق.
ومنذ عام 2003 يحصي الجنابي اغتيال أكثر من 1500 عالم وأكاديمي عراقي بينهم نحو 200 يعملون في الطاقة الذرية.
ويشيد بإخلاص كوادر البرنامج العراقي حيث لم يشهد خيانات سوى حالات بسيطة لموظفين صغار قاموا بإعطاء معلومات مغلوطة عن النووي العراقي، وكان الأميركيون يعلمون أنها معلومات كاذبة لكنهم أرادوا استغلالها لتبرير الغزو.
ويعرب عن اعتقاده بأن الأميركيين لم يحصلوا على أي معلومات عن البرنامج النووي العراقي، وحتى عام 1991 كانوا يقصفون مواقع ليست نووية لأنهم لا يعرفون أماكنها الحقيقية، ولكن بعد دخول لجان التفتيش الدولية استطاعت أميركا جمع المعلومات عن المنظومات النووية العراقية، بحسب الجنابي.
ترقب إسرائيلي
من جهته، يرى الخبير العسكري العراقي اللواء الركن علوان حسون العبوسي أن النشاط العلمي للعقل العراقي لم يكن خافيا على إسرائيل، بل كانت تترقبه وتتابع خطواته، ومنذ اللحظة الأولى للاتفاق العراقي الفرنسي بشأن مشروع المفاعل، بدأت إسرائيل سعيها لإفشال الاتفاق، فقد اعتبرته -وكذلك الاتفاق العراقي الإيطالي- إيذانا بمرحلة إستراتيجية جديدة، لذا قررت متابعته ووقفه ثم تدميره".
ويكشف العبوسي عن حملة إعلامية مكثفة بدأتها إسرائيل بعد توقيع الاتفاق العراقي الفرنسي، زعمت خلالها قدرة المفاعل العراقي على صنع قنبلة ذرية، ثم انتقلت من الإعلام إلى مرحلة أخرى بسلسلة من التفجيرات والاعتداءات في فرنسا وإيطاليا، أعقبتها بعمليات اغتيال طالت خبراء البرنامج النووي العراقي.
ويكشف العبوسي عن أول عالم تعرض للاغتيال بعد الغزو الأميركي، وهو المدير العام لمركز البحوث النووية الدكتور خالد إبراهيم سعيد الذي قتلته القوات الأميركية يوم 9 أبريل/نيسان 2003 عندما كان عائدا إلى داره، وكذلك الدكتور حارث الراوي الذي اغتيل في الأيام الأولى للغزو.
ويؤكد العبوسي رفض أغلب العلماء العراقيين التعاون مع الأميركيين، باستثناء الدكتور مهدي العبيدي الذي تبوأ منصبا مهما يتعلق بأجهزة الطرد المركزي، وقام بالاتصال مع المخابرات الأميركية، وأبلغهم بأنه يرغب في اللجوء إلى أميركا مقابل إعطائهم وثائق مهمة عن البرنامج النووي العراقي كانت مخفيه في حديقة منزله.

ذريعة لغزو العراق
استطاعت الولايات المتحدة الاستفادة من أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 لتفتح الطريق أمام إحكام سيطرتها على العالم بذريعة محاربة الإرهاب، واتخذت الإدارة الأميركية آنذاك من عدم التزام الحكومة العراقية السابقة بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل بشكل صريح حجة لحربها، بحسب أستاذ التاريخ الحديث المتمرس الدكتور إبراهيم خليل العلاف.
ويضيف العلاف للجزيرة نت أن الإدارة الأميركية روجت دعاية تفيد بإعادة العراق النشاط لبرنامجه النووي منذ عام 1998، وادعت أنه على وشك امتلاك السلاح النووي، حتى أصرت على استصدار قرار مجلس الأمن المرقم 1441 قبل عودة المفتشين.
ويتابع العلاف -مؤلف كتاب "القدرات النووية في الشرق الأوسط"- أن العراق عمل على إعداد تقارير ضخمة وشاملة بلغت 12 ألف صفحة، لافتا إلى أن وزارة الخارجية الأميركية استولت على هذه التقارير عند وصولها إلى نيويورك، وقيل في حينها إنها حذفت كل ما ورد فيها من ذكر لأسماء شركات أميركية وبريطانية ساعدت العراق في برامجه النووية السابقة، وقامت بتوزيع نسخ مصححة من التقارير على أعضاء في مجلس الأمن الدائمين فقط، وبعد ذلك أعلنت أنه لا جديد في التقارير العراقية.
ويذكر أن المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي وبعد الغزو الأميركي عام 2003، اعترف لوسائل الإعلام بأن العراق لم يعد النشاط للبرنامج النووي بعد سنة 1998، ولا يمتلك أية مقومات لبرنامج نووي بعد أن تم تدمير جميع مكونات برنامجه السابق.

مصير النووي العراقي
بعد عام 2003 لا يوجد برنامج نووي فاعل في العراق، والبرنامج السابق ألغي بقرارات مجلس الأمن، كما تقول عضو لجنة النفط والطاقة في مجلس النواب العراقي زهرة البجاري.
وتبيّن البجاري للجزيرة نت أن العراق قرر فتح صفحة جديدة بعيدا عن البرنامج النووي السابق، ويستعد اليوم لوضع أسس مشروع الطاقة النووية للأغراض السلمية.
وحول المساعي الحكومية لتفعيل الطاقة النووية تؤكد البجاري وجود إستراتيجية قصيرة ومتوسطة المدى لإنشاء مفاعلات المشروع النووي السلمي، كما أصدرت الحكومة قانون هيئة الطاقة الذرية منذ عام 2016 ولكنه بحاجة إلى تفعيل.
وتضيف أن تشكيل هيئة الرقابة النووية والإشعاعية الموحدة لا يزال في أدراج هيئة المستشارين منذ عام 2012 وإلى الآن لم يرَ النور.
وفي الختام دعت البجاري إلى إنصاف علماء الذرة وخبرائها في العراق وإعطائهم حقوقهم، أو على الأقل السماح لهم بالعيش داخل العراق وحمايتهم ورد الاعتبار لهم.