الفنان ياسر الدويك.. القدس وجعي ونزيفي
القدس في لوحات الفنان الدويك هي الغائبة الحاضرة عبر رموز المكان الذي يختزل تاريخها الإنساني، ويؤكد هويتها العربية الإسلامية، وفي الوقت نفسه يعبر عن صمودها في وجه الغزاة، لتكون القدس مركز اللوحة والحكاية، وتكون اللوحة مدونة بصرية لمدينة السلام التي خنقها غبار الحروب.
لم تكن القدس في نظر الفنان ياسر الدويك المولود في الخليل قبل النكبة 1948 بـ8 سنوات مكانا لذكريات الطفولة التي تعلم فيها أبجديات الحرف واللون، بل ظلت الجنة المفقودة التي يتوق إلى الإقامة فيها عبر فضاء اللوحة، مستعيدا تفاصيلها وكل حجر فيها وشجرة ونافذة وباب وحارة وبيت.
القدس عند الفنان الدويك (1940) ليست مكانا فحسب، وإنما هي بوصلة تحدد اتجاه فلسطين وتختزل التاريخ والجغرافيا والنضال والمأساة، وهو يتخيل القدس التي يستعيدها في اللوحة بعين العاشق وقلب المشتاق وضميرالمحب، لتكون القدس موضوعه وهاجسه ووجعه، كما هي حلمه.
في العاشرة من عمره التقى الدويك شابًا مصري جاء إلى فلسطين في الخمسينيات، وعمل في مقهى والده، واكتشف أن الشاب الذي لا يتذكر عنه سوى اسمه، إسماعيل، كان رسامًا، وتعلم منه الفتى ياسر فن البورتريه بالفحم (رسم الوجوه).
وكان الفتى يفيق مع بزوغ الشمس للذهاب إلى المدرسة، يخترق السوق بألوانه وروائحه، مرورا بقبة الصخرة التي تسقط عليها الشمس، وأدراجها وجدرانها وأقواسها ونوافذها المزخرفة، ليعود في الرحلة نفسها وهو يخزن الأشكال والألوان التي تسحره، وفي باحة الحرم يراجع دروسه التي يرتحل فيها مع التاريخ، فيأخذه المنظر إلى حكايات عميقة في زمان المكان.
وفي المساء كعادة ذلك الزمان، كان الفتيان يساعدون ذويهم، فكان الفتى يعمل في مقهى الدباغة الذي يعود إلى والده، وكان ملتقى كل الفئات، وبعضهم من المهجرين من القرى المجاورة الذين يتحدثون في السياسة، وأحوال الناس، ومآسيهم، وحال اللاجئين، وهو ما فتح عقل الطفل على المأساة التي أصابت جزءا من بلده فلسطين.
القدس والفن
وفي المرحلة الثانوية التي عرف فيها فنانا للمدرسة الرشيدية عمل الدويك في تذهيب قبة الصخرة الذي نفذه فنيون إيطاليون ومصريون، فتعلم فن التذهيب الذي يعدّ من الفنون الإسلامية العريقة، ويقول "كنت أحصل على أجرة يومية 25 قرشًا، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت"، لكن الأهم بالنسبة له "المجد الذي حازه بالعمل في قبة الصخرة المشرفة".
وبعد 10 سنوات من تخرجه في معهد معلمي العروب 1958، واشتغاله في التعليم، درس الغرافيك في أكاديمية الفنون ببغداد، وتخرج بعد عام واحد من النكسة عام 1967، فأصبح الفن والقدس الأسيرة يمثلان خطين متوازيين لهوية الفنان ياسر الدويك؛ اجتمعا لتكون اللوحة سرديتها، وتكون الحكاية بين أسوار القدس وأزقتها والمنفى ظلالًا للمكان، فكل لوحة يرسمها يكون مفتاحها القدس وبوصلتها فلسطين.
أنجز الفنان الدويك على امتداد أكثر من نصف قرن عشرات الأعمال التي تتناول القدس، وتستعير رمزياتها تعبيريا بالأثر الذي تركته في وجدانه، يستعيد طفولته التي عاشها في المكان بظلال هيبته وقداسته وطقوسه ومواسمه.
كان الدويك مفتونًا بشوارع المدينة وأسواقها وقبابها ومآذنها وأبوابها ونوافذها التي تتنوع بثراء الهندسة الأموية والمملوكية والعثمانية بأقواسها وقبابها وزخرفتها وفسيفسائها، وحياتها الشعبية، وتحديدا الفلاحات اللواتي يأتين من القرى المجاورة لبيع محاصيلهن بالزي الشعبي المزركش الذي يتماهى مع ألوان السوق، وتشبعت ذاكرته بموسيقى ألوانهن وإيقاعه الذي تأثر فيه بمدرّسيه العراقيين.
استعادة المكان باللوحة
تقول سوزان سونتاج إن الرسام أو الفوتوغرافي حينما يرسم المكان فإنه يستعيده، ويصبح ملكيته، وهو ما كان يسعى إليه الدويك؛ استعادة مكان ذكرياته، بالوجوه التي عرفها في القدس والشوارع والجدران والعمائر والنوافذ والأبواب بواقعية توثيقية وتسجيلية للناس والأمكنة التي يمكن للمشاهد أن يحصي حجارتها، حجرا حجرا، ويقول إنه "يعرف كل حجر فيها".
ويقول إن "القدس شكلت جانبًا من هواجسي لأحقق ذاتي. الاحتلال الصهيوني حينما احتل ما تبقى من أرض فلسطين كان صدمة لي، وشكل ردّة فعل وتحولًا كبيرين في تناول أشكال الفن لدي للخروج من الفعل الميلودرامي إلى مفهوم التصدي بالاستناد إلى التراث والتاريخ الحضاري الذي أُسست عليه مدينة القدس في تنوعها وتسامح أهلها وطبيعتها ورائحة ترابها".
وفي عام 1973، وهو عام حرب رمضان، كان الدويك يدرس في العاصمة البريطانية لندن، حين اكتشف أثناء دراسته أن القدس تمثل مرجعية للجمال والفن والأساليب والتقنيات، فهي لا تمتاز بجمال العمارة والبناء فحسب، بل هي مدرسة للفنون ومرجعية لدراسة الفن، بما تشتمل عليه من تنوع لعمارة المساجد والكنائس والأسواق والأسبلة، والقناطر، وتمثل مرجعية جمالية للفنان وثقافة العمارة وتنطوي على تعدد الثقافات.
ويتحدث الفنان الذي ناهز ثمانية عقود عن القدس بحزن شفيف فيقول "في اللوحة نستعيد ظلال المكان على القماش، نستحضره بالخط واللون لنشبع بصرنا بعدد أيام الغياب وسني الشوق وفصول الأسى، القدس عشقي، وغالبية أعمالي لا تغادر المكان المقدسي الذي أرسمه بشفافية وحب وحنين"، ولا يكتفي بذلك، بل يضيف إليها روحه.
تدوين القدس بصريا
تنقل الفنان في تجربته على الأسلوب التسجيلي التوثيقي لتدوين جماليات المكان الذي يقاوم المحو والتشويه، مسجلا وموثقا قبة الصخرة والمسجد الأقصى وأسواق المدينة بأقواسها وناسها، ومآذنها، وحتى حجارتها قبل أن ينتقل إلى الواقعية التعبيرية التي تسجل مأساة المدينة الأسيرة بظلال التأثيرية الرمزية.
وفي أعماله التي تتنوع بين الرسم والحفر، يميل إلى مقاطع العمارة داخل الدائرة، أو المشاهد البانورامية للمدينة التي تحتضنها الطبيعة، وتتميز بالتناسق الهندسي بين الوحدات والعناصر في سطح اللوحة، وتنحصر ألوانه في مثلث لوني يرمز إلى الأرض والقداسة والخصب، فالسماء زرقاء صافية، والأشجار خضر، والعمارة بألوانها الترابية تمنح المكان تناغمًا وتجانسا مع الطبيعة وقدسية كذلك.
وتظهر قبة الصخرة في أعمال الدويك وكأنها تقيم في حدقة العين؛ إنها المدينة التي يراها الفنان محروسة بعيون أهلها، ويصورها في لوحة أخرى وهي تمتد على الأفق في مشهد بعيد تتعرض للعاصفة، وعلى الرغم من قتامة العاصفة فإن الضوء يتسرب من بين شقوق الغيم ليزرع الأمل.
وفي انتقال ياسر الدويك إلى التجريدية الرمزية، بحكم دراسته في أوروبا، فقد انفتح على المدارس الحداثية، مجربًا دراسة الشكل ومواءمته مع الموضوع، لاجتراح مفهوم جمالي يؤسس لهوية العمل الفني الذي ينسجم مع حجم القضية التي ينافح عنها، فهي ليست مجرد مدينة وإنما هي التاريخ مختزلا .
وفي معرضه الاستعادي لأعماله المقدسية بعنوان "القدس في دروب الذاكرة 2017″، برزت مراحل تجربته وتنوع تقنياته وأساليبه على امتداد نصف قرن، وكتبت إسلام النسور " صوّر الفنان الدويك مدينة القدس وحاراتها في محفوراته وكأنها معتقة، مسبلا عليها بألوان الترابيات والبنيات مسحة من السكون، وتشكل البيوت بطريقة متراصفة حول قبة الصخرة، وكأنها تمثل أجسادا تحمي المكان المقدس، في حين يبدو الأفق مضيئًا بالقمر المكتمل الذي يرمز لفجر الحرية، وتلاشي ظلال العتمة التي تحيط بالمدينة الأسيرة".
القدس الغائبة الحاضرة
كانت القدس في لوحات الفنان الدويك هي الغائبة الحاضرة عبر رموز المكان الذي يختزل تاريخها الإنساني، ويؤكد هويتها العربية الإسلامية، وفي الوقت نفسه تعبر عن صمودها في وجه الغزاة، لتكون القدس مركز اللوحة والحكاية، وتكون اللوحة مدونة بصرية لمدينة السلام التي خنقها غبار الحروب.
ويقول الفنان ياسر الدويك عن أعماله لمدينة القدس "هي من وحي ذاكرة الطفل الذي كان يحفظ كل البيوت والأزقة والأسواق والأماكن المقدسة، ذاكرة الإنسان الذي تشبع بألوان المكان وتدرجاته التي تترك في النفس السكينة والروحانية".
ويضيف "كنا صغارا، وكبرنا في المكان، ورسمنا أحلامنا فيه، لنعود بعد عقود لنرسم الحلم بالحلم، والقدس حلم، لا تزال عالقة في الذهن، وفي القلب، ترحل معنا، وكل يوم حينما أبدأ اللوحة تندلق صورتها على بياض القماش، كأنها تنثال من الذاكرة كنزيف الدم.. القدس ليست مصدر إلهامي، فحسب، القدس وجعي ونزيفي".