رغم مرور 30 عاما على انهياره.. الاتحاد السوفياتي الحاضر الغائب في روسيا المعاصرة

ناشطون من الحزب الشيوعي الروسي يحملون العلم الأحمر للاتحاد السوفياتي في الميدان الأحمر في موسكو (الأوروبية)

موسكو – مثّل انهيار الاتحاد السوفياتي في 26 ديسمبر/كانون الأول 1991 أكبر حدث جيوسياسي في القرن الـ20، وأدى إلى انفصال 15 من جمهورياته وتحوّلها إلى دول مستقلة، على رأسها روسيا؛ الفضاء الأكبر الذي تبقّى بعد انهيار الدولة العظمى مساحة وسكانًا وقوة عسكرية.

ونتيجة لذلك الحدث المدوّي، أصبحت روسيا الوريث القانوني للقوة العظمى السابقة، واحتفظت لنفسها ليس فقط بأكبر مساحة، ولكن أيضا بقاعدة موارد وإنتاج قوية.

ولكن بالنظر إلى حجمها، فقد خسرت روسيا جراء تفكك الاتحاد السوفياتي أكثر من بقية الجمهوريات، فقد فقدت قاعدة الفضاء في كازاخستان، ومصانع محركات المركبات الفضائية في أوكرانيا، وجزءا من صناعة السيارات في لاتفيا، وغير ذلك.

ومنذ ذلك الحين، ورغم الظروف المعقدة التي عاشتها البلاد طوال العقد الأول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت روسيا معركة ترميم البيت الداخلي، ومعالجة تبعات الانهيار الذي أصابها نتيجة لذلك. كما عملت على إعادة تثبيت حضورها وتقويته على الساحة الدولية ومعالجة نقاط الضعف التي حاول الغرب استغلالها مستفيدًا من حالة الفوضى التي وقعت على رأس الدولة الفتية.

من الاشتراكية إلى الرأسمالية

أُسّس الاتحاد السوفياتي بثورة اشتراكية في روسيا القيصرية، وحمل لواء الاشتراكية على مرّ عقود من الزمن، بيد أنه بدأ يقترب شيئا فشيئا من النموذج الرأسمالي بشكل أو بآخر بعد تفكك السوفيات وتشظي منظومته الفكرية والسياسية.

ورغم تحقيق نتائج ملموسة على صعيد ما يوصف بالإصلاحات الداخلية، كفتح المجال أمام القطاع الخاص لممارسة الأعمال التجارية والتملك بحرية، وتحقيق تقدم في الحريات الشخصية وحرية التعبير، وتحسين البنى التحتية وخطوط المواصلات وغيرها، فإن عملية إعادة البناء أدّت في بعض نتائجها إلى إحداث تبدلات سلبية عميقة في المجتمع والاقتصاد، فازدادت الفوارق الطبقية ازديادا حادا، وارتفعت الأسعار، وانتهت إلى غير رجعة حقبة الصحة والتعليم والاستجمام بالمجان.

ومع ذلك فقد تحسنت العديد من المؤشرات الاقتصادية في العقود الماضية، فبينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا 518 مليار دولار بنهاية عام 1991 وفقًا للبنك الدولي، تضاعف 3 مرات تقريبًا بحلول عام 2021 وتجاوز 1.48 تريليون دولار. وأدى ذلك إلى زيادة نصيب الفرد، إذ قدّر نصيبه من الناتج المحلي الإجمالي أثناء انهيار الاتحاد السوفياتي بنحو 9 آلاف دولار، في حين بلغ في عام 2018 نحو 11.8 ألف دولار في روسيا.

وعلى الصعيد السكاني بلغ تعداد سكان الدولة المنهارة في آخر عهدها نحو 147 مليون نسمة طبقا لإحصاء عام 1989، في حين انخفض العدد ليصل في عام 2002 إلى 145.2 مليون نسمة، واستمر التراجع الديمغرافي حتى عام 2009 فبلغ عدد السكان 142.7 مليونا. ولكن في عام 2010 بدأ الاتجاه السلبي يتغير تدريجيا، إلى أن وصل عدد السكان الفعلي في عام 2015 إلى 146.5 مليون شخص (بعد إعادة توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا).

وفي حين كان متوسط العمر المتوقع في روسيا عام 2000 نحو 65.3 سنة، أصبح في عام 2019 نحو 73.2 سنة، وفقا لتقرير لمنظمة الصحة العالمية.

الحنين إلى الحقبة السوفياتية

لا تتوقف تداعيات الانهيار الكبير في روسيا على المستويات الاقتصادية والسياسية، بل تتعداها أيضا إلى الجوانب النفسية تأثرا بإحساس كثير من الروس بحالة من الفقد وتراجع المكانة عالميا.

ووفقًا لمسح أجراه مركز "ليفادا" لدراسة الرأي العام في عام 2021، أبدى 66% من الروس أسفهم على انهيار الاتحاد السوفياتي، في حين لم يتجاوز هذا الرقم 58% في السنوات العشر الماضية. وكانت نسبة الحنين إلى الماضي السوفياتي قد بلغت ذروتها لدى الروس في عام 2000 حين بلغت نحو 75% وفقا لاستطلاع الرأي، كما عبر 60% ممن شملهم الاستطلاع عن ثقتهم بأنه كان يمكن للسلطات تجنب انهيار البلاد.

ورغم أن معظم الذين يبدون ندمهم على تلك الأحداث التاريخية هم ممن تجاوزوا سن 55 عاما، فقد لوحظ في العامين الماضيين نمو مثل هذه المشاعر بين الشباب الذين تراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا.

وقد نشر المركز نفسه في نوفمبر/تشرين الأول من العام الماضي نتيجة استطلاع رأي، عبّر فيه 47% من الروس عن اعتقادهم بأن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، في حين رأى 42% عكس ذلك، وامتنع 11% من الروس عن تقييم المسار الذي اختارته الدولة.

ويفسر الروس توقهم إلى الحقبة السوفياتية بانهيار النظام الاقتصادي الموحد، وفقدان الشعور بالقوة العظمى، فضلًا عن تنامي حالة انعدام الثقة المتبادلة والقلق تجاه المستقبل، والخوف من فقدان الوظائف.

لكن عالمة الاجتماع في مركز "ليفادا" كارينا بيبيا توضح أنه بعد ضمّ شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي تراجعت مشاعر الحنين إلى العهد السوفياتي، لأن قضية شبه جزيرة القرم وزخم المواجهة مع الغرب أعادا روسيا إلى صدارة المشهد الدولي وهو ما عوّض الناس عن الحاجة إلى قوة عظمى.

ومع ذلك، تؤكد أن الزيادة في أعداد الروس النادمين على انهيار الاتحاد السوفياتي ترجع إلى حد كبير إلى قانون المعاشات التقاعدية الذي أُقرّ أخيرا، وأثار جدلًا كبيرًا.

بين مرحلتين

ليس من السهولة بمكان إجراء مقارنة متماسكة بين الحقبتين السوفياتية السابقة والروسية الحالية، لاختلاف الظروف والمراحل، وعدم وضوح الرؤية. ومع ذلك، فإن لسان الحال لدى كثير من الروس يقول إن من لا يأسف على تفكك الاتحاد السوفياتي فهو بلا قلب، ومن يريد إحياءه فهو بلا عقل.

ويرى الخبير في الشؤون العسكرية فيكتور بارانتسيف أنه رغم أن تعداد الجيش السوفياتي كان نحو 5 ملايين في حين أنه أقل من مليون في روسيا حاليًّا، ورغم امتلاك الجيش الروسي حاليًّا صواريخ نووية أقل بـ4 مرات من التي كان يمتلكها الجيش السوفياتي، فإنها كافية لترك دمار لا يمكن تسويته في حالة وقوع هجوم نووي من الولايات المتحدة.

وبعبارة أخرى، يؤكد بارانتسيف أن القوة النووية الروسية قادرة على تحييد تفوق أي جيش أكثر عددًا.

فضلا عن ذلك، يعيد إلى الأذهان أنه لم يكن في الجيش السوفياتي جنود ورقباء متعاقدون ومحترفون، وكانت مدة الخدمة لا تتجاوز 3 أعوام، أما في الوقت الحالي فقد ظهرت نواة قوية من صغار الجنود المتعاقدين في الجيش الروسي الذين يخدمون مددًا تبدأ من 5 وتستمر حتى 20 سنة، وأن الأرقام تشير إلى أن ثلثي الجيش يتكون من محترفين.

حقبة بوتين

من المؤكد أن روسيا دخلت مع رئيسها الحالي فلاديمير بوتين منعطفا جديدا داخليا وعلى مستوى التأثير والنفوذ الخارجي، ويرى الكاتب في الشؤون الدولية دينيس كركودينوف أنه يمكن تلخيص نتائج السياسة الخارجية للرئيس بوتين بدءا من عام 1999 بهدفين رئيسيين: الحفاظ على وحدة روسيا، واستعادة مكانتها كقوة عظمى على المسرح العالمي لها صوت في حل المشكلات الدولية المهمة.

ويؤكد أن روسيا أصبحت تحت حكم بوتين مستقلة وقوية، واستعادت مكانتها كقوة عظمى، بعد حالة الفوضى الكارثية في تسعينيات القرن الماضي، وأعادت فرض احترامها، رغم المشاكل التي تعاني منها في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي.

المصدر : الجزيرة