تحديات كبرى.. 78 عاما على مخاض لبنان بين بلوغ الاستقلال وتعذر إنجازه

عرض عسكري رمزي بمناسبة عيد الاستقلال ال78 في لبنان
عرض عسكري رمزي بمناسبة عيد الاستقلال الـ78 في لبنان (مواقع التواصل الاجتماعي)

بيروت – في بلد مثقل بالأزمات والتحديات، أحيا اللبنانيون الذكرى السنوية الـ78 لاستقلالهم عن الانتداب الفرنسي، واقتصرت المراسم على عرض عسكري رمزي بوزارة الدفاع حضره الرؤساء الثلاثة، ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي.

ويتناقل اللبنانيون رواية الاستقلال كقصة لأبطال رحلوا، حين أطلق جنود الانتداب الفرنسي سراح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح وآخرين من قلعة راشيا الملقبة بـ"قلعة الاستقلال"، في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943، ومن ثم تحررت البلاد من انتدابها الذي دام نحو 23 عاما، أي إنه بدأ مع تأسيس لبنان عام 1920، بعد تقسيمات سايكس بيكو.

وفي عقود ما بعد الاستقلال، وما عاشه لبنان من اقتتال وحرب أهلية طواها اتفاق الطائف الذي رعته السعودية عام 1989 وأرسى أسس النظام الحالي، بقي البلد غارقا في صراعات أنتجتها الانقسامات الطائفية والسياسية، وارتباط القوى بمحاور إقليمية متصارعة، فشكك كثيرون في حقيقة الاستقلال ومعناه.

ما بعد الذكرى

وإذا كانت تعقيدات المشهد اللبناني تشي بأن استقلاله الفعلي غير منجز، يسأل كثيرون عن مصيره وسط استعصاءات يواجهها سياسيا واقتصاديا وحكوميا وفي علاقاته مع دول غربية واضطرابها مع دول خليجية.

ويرى الصحفي والمحلل السياسي حسين أيوب أن القضايا الضاغطة تدفع اللبنانيين إلى عدم الاكتراث بالمعاني الوطنية للاستقلال، لأن لبنان لم يعش استقلالا فعليا ولن يعيشه لاحقا، بسبب دكتاتورية جغرافيا جعلته محكوما بتداعيات موقعه بين سوريا وإسرائيل والمتوسط.

توازيا، يرى الكاتب السياسي خلدون الشريف أن مفهوم الاستقلال تبدّل، إذ يقاس باستقلالية قرارات الدولة واحتسابها لمصالح المواطنين، معتبرا أن اللبنانيين لم يبلغوا ذلك.

ويعطي الشريف للجزيرة نت شواهد حالية على عدم استقلالية لبنان، كتاريخ تعطيل الاستحقاقات الدستورية عن مواعيدها.

ويذكر أن لبنان عاش عامين ونصف بلا رئيس جمهورية قبل انتخاب ميشال عون عام 2016، وجرى التمديد لولاية المجلس النيابية مرات عدة، فضلا عن تعليق عمل الحكومة عند الخلافات السياسية أو القضائية أو الإقليمية، كما يصيب حكومة نجيب ميقاتي حاليا.

ويضيف إليها الشريف عدم استقلالية القضاء، والمؤسسات الأمنية نظرا إلى حاجاتها الدائمة لدعم خارجي بالغذاء والعتاد، كما أن قرار لبنان الاقتصادي غير مستقل، حتى لو اتخذت الدولة قرارا مستقلا، فتستطيع بعض القوى وضع فيتو وعرقلته.

ويرى الشريف أن الديمقراطية التوافقية أثبتت إخفاقها، وأفرزت لاحقا هذه الأزمات.

تحديات كبرى

ويعتقد الشريف أن لبنان أمام تحديات كبرى تستدعي إعادة تفعيل المؤسسات الدستورية، مذكرا بأن وجود لبنان في المنطقة واستقلاله يشترطان علاقات ممتازة بالجوار باستثناء عداوته لإسرائيل، إلا أنه أصبح على خصومة مع أغلب دول المنطقة، وأولها السعودية ودول خليجية تعدّه مصطفا مع إيران.

لكن حسين أيوب يرى أن تحديات لبنان تتجسد في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبنيوية، ويربطها بوظيفته للسنوات المقبلة إلى حين ولادة عهد جديد قد يضع البلاد على سكة العلاج.

ويقول أيوب للجزيرة نت إن لبنان يخوض تحدياته مع الغرب على 3 جبهات: مفاوضات الحكومة مع صندوق النقد الدولي، وملف الكهرباء، وترسيم الحدود مع إسرائيل، ويجسد ملف الحدود حجر زاوية بنظرة واشنطن إلى لبنان، فضلا عن ملف التنقيب عن الغاز.

ويعبّر الشريف عن خشية على مصير الانتخابات البرلمانية في 2022، لكن أيوب يرجّح عدم تأجيلها أو إلغائها، لأن لا أحد له مصلحة بذلك أمام الرأي العام، بالإضافة إلى أن المناخ الدولي برأيه يعدّ إنجاز الانتخابات خطا أحمر.

لكن التحديات الإقليمية بنظر أيوب ليست أقل شأنا من مطبات الداخل، إذ يرى أن المنطقة محكومة بإيقاع المفاوضات الأميركية الإيرانية في فيينا، وقد تفضي إلى احتمالات عدة، كالإبقاء على الستاتيكو الحالي، أو الذهاب إلى اتفاق مرحلي لتقطيع الوقت بين الطرفين.

ولا يفصل أيوب المقاطعة السعودية للبنان عما ينتظر الإقليم من مواجهات أو تسويات.

وإذا حصل اتفاق مرحلي بين أميركا وإيران على طاولة التفاوض وفق أيوب، سيطرأ تغيير على المنطقة، وسيدفع إلى حوار سعودي إيراني، بموازاة تنظيم الانسحاب الأميركي، ومن ثم سنشهد فرصة جدّية لفكفكة اشتباكات المنطقة في أكثر من ساحة، وعلى رأسها اليمن وسوريا ولبنان للاستفادة من هذا المناخ.

عرض عسكري رمزي بمناسبة عيد الاستقلال ال78 في لبنان
الرئيس اللبناني ميشال عون (يسار) يتفقد القوات المسلحة خلال عرض عسكري بمناسبة الذكرى الـ78 للاستقلال (مواقع التواصل)

جذور الأزمة

هذه الفسيفساء داخليا وخارجيا تأخذنا إلى السؤال: ما معنى أن يكون استقلال لبنان غير منجز؟
يعود الكاتب والصحفي اللبناني يوسف بزي إلى معنى الاستقلال من منظوره، إذ يكون الاستقلال في العالم وليس عن العالم.

وحسب بزي لا يمكن صنع وطن وهوية لجماعة سياسية اختارت بإرادة حرة العيش معا، من دون ذاك الاتزان بين "مناعة" الحدود (الداخل) ورحابة الإقبال على العالم (الخارج).

ويضيق أمام تاريخ الكيان اللبناني، فيخبرنا على نحو مأساوي عن صعوبة تحقيق ذلك الاتزان، لأن الداخل هو من يستدعي الاستباحة أو التفريط بالاستقلال ونقضه.

ويُرجع بزي غياب الاتزان المقصود إلى أصل تكوين لبنان، الذي يسبق نشوء الكيان المستقل.

ووفقا لحديث بزي للجزيرة نت، كان على الرعايا العثمانيين البحث عن رابطة جديدة مختارة بين عالم إسلامي فسيح ما عادت ممكنة فيه الأحلام الإمبراطورية، وعالم عربي لا يسعه أن يكون جسدا واحدا. وبالمقابل، "كانت الأقليات المتعددة تطرح تصوراتها المتناقضة بين جغرافيات فسيحة أو ضيقة، منعزلة أو منفتحة، وتملك وعيا قديما مملوءا بالقلق الوجودي".

ويرى يوسف بزي أن الجماعة المسيحية المارونية التي اختزنت تجربة جبل لبنان، الإمارة ثم المتصرفية، كانت أكثر استعدادا وقبولا للمفهوم الجديد الآتي من العالم ما بعد العثماني، أي مفهوم "الدولة-الأمة". لكنها أيضا، برأيه، كانت دائمة الحيرة بين فكرتين: وطن قومي لمسيحيي الشرق، أو وطن قومي متنوع الجماعات والأقليات، بحدود جديدة متوسعة باتت تُعرف ابتداء من عام 1920 بـ"لبنان الكبير".

ويسلط بزي الضوء على العامل الخارجي بالتأثير على لبنان على مستوى مذاهبه وأحزابه. وفي تلك الحقبة، ساعد الخارج -في رأيه- على تحقيق التصور المسيحي الماروني، و"كانت الجماعات الأخرى التي خابت مشاريعها متفاوتة الإقبال والاندماج بالكيان الجديد".

وعلى هذا التفاوت أو ضعف الحماسة، قال إن كل "خارج" ضلّ بات يجد "في المترددين أو المشككين شعبًا جاهزًا للتبعية وللانفصال أو للخروج على الدولة، كلما اقتضت مصلحة ذاك الخارج اقتحاما للداخل اللبناني".

ويُعيد الكاتب اضطراب علاقات الجماعات اللبنانية إلى بقائها على هوياتها كطوائف وملل ممتنعة عن "الرابطة الوطنية" التي تؤلف شعبا ومواطنين.

واليوم، بعد 100 عام وعام على ولادة كيان "لبنان الكبير"، و78 عاما على الاستقلال، يقول بزي "بينما خفتت جذوة أيديولوجيات (الأمة الإسلامية) أو العربية أو السورية، كما انطفأت لبنانيا مغامرات (الحرب الشعبية الطويلة الأمد) لتحرير فلسطين أو تغيير العالم أو دحر الإمبريالية، استمر استعصاء خروج لبنان من العصبيات الأهلية والطائفية كما استعصاء الاستقلال عن إملاءات الخارج".

ويصف تجربة لبنان في 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وجلاء الجيش السوري بـ"انتفاضة الاستقلال" التي فشلت.

والسبب برأيه ممانعة حزب الله وطائفته الانكفاء إلى داخل الحدود، فذلك دفع تلقائيا الطوائف الأخرى إلى البحث عن سند خارجي سعيا لتحقيق "توازن الرعب". وعلى هذا المنوال، "يتبدد الاستقلال وتُستأنف الحروب الأهلية الباردة والفاترة والنارية في كل حين".

المصدر : الجزيرة