بسبب الفساد واختلاس الأموال العامة.. القضاء يدخل إلى الإليزيه من بوابة ساركوزي

عدّت جمعية "أنتيكور" ساركوزي "الغائب الرئيس" عن القضية، وقالت إنه لو استمر في رفض المثول للشهادة، فإن المحكمة كانت ستأمر الشرطة بإحضاره بالقوة. ومثّل هذا سابقة تهديد تاريخية، أجبرت الرئيس السابق على المثول للشهادة أمام المحكمة مطلع الشهر الجاري.

Sarkozy Appears In Court On Corruption Charges
ساركوزي مثل أمام المحكمة بتهم فساد (الأناضول)

باريس- بعد مرور 11 عاما، ومن داخل الغرفة 32 بمحكمة جنايات باريس، وجد أعضاء حكومة الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أنفسهم مجبرين على تقديم تفسيرات للقضاء في تهم متعلقة بالفساد والمحسوبية واختلاس الأموال العامة بملايين اليوروهات، على المشورة السياسية واستطلاعات الرأي بين عامي 2007 و2012.

الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (وسط) يصل إلى المحكمة في مارس/آذار الماضي (الأوروبية)

قضية استطلاعات الإليزيه

بدأت أحداث القضية في يوليو/تموز 2009، أثناء رئاسة ساركوزي، عندما أصدر ديوان المحاسبة تقريرا يشير إلى مخالفات عديدة في استطلاعات الرأي التي أجراها مكتب الرئيس، مثل احتمال زواج ساركوزي بعارضة الأزياء والمغنية كارلا بروني. وتعدّ هذه المرة الأولى التي يحصل فيها الديوان على حق الخوض في الشؤون المالية لقصر الإليزيه.

وحسب التقرير، أُبرمت اتفاقيات عدة بكلفة بلغت 7.5 ملايين يورو، بين القصر وشركتي"جياكوميتي" و"بوبليفاكت" المملوكتين لباتريك بويسون مستشار ساركوزي.

وتم التوقيع بين الطرفين من دون احترام قواعد المنافسة في الإدارات الحكومية، التي تنص على إصدار إعلان عام أو مناقصة لإعطاء فرصة متساوية للشركات في تقديم عروضها.

وبعد أن تمكن الناشط في حماية البيئة ريموند أفريلييه من الحصول على التقرير، قدمت جمعية " أنتيكور" لمكافحة الفساد شكوى في فبراير/شباط 2010.

وقال عضو الجمعية المحامي جيروم كيرسنتي، للجزيرة نت، إنها تعتمد عادة على التحقيقات الصحفية أو المبلغين عن المخالفات أو تقارير ديوان المحاسبة لتقديم الشكاوى أمام القضاء.

تورط شخصيات معروفة

أحيل وزير الداخلية السابق المقرب من ساركوزي، كلود غيان، إلى المحكمة بتهمة المحسوبية واختلاس الأموال العامة والإهمال، وطالبت النيابة يوم الثلاثاء التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، بسجنه مدة سنة وتغريمه 30 ألف يورو.

ويُشتبه في أن غيان نظم توقيع العقود مع الشركتين، وصادق على استطلاعات أخرى مع شركات "إيبسوس" و"إيفوب" و"تي إن إس" و"أوبنيون وي".

وأدين غيان سابقا في قضية "الانتماء الإجرامي" من قبل قضاة التحقيق المكلفين بملف تمويل ليبيا خلال حكم معمر القذافي لحملة ساركوزي عام 2007. ومثله، يواجه رئيس أركان الإليزيه، إيمانويل مينيون، غرامة قدرها 10 آلاف يورو للتهم نفسها.

أما باتريك بويسون، رئيس الشركتين والمستشار السابق للإليزيه، فمشتبه به في قضية اختلاس تقدّر بـ1.5 مليون يورو، إثر بيعه استطلاعات طلبتها وسائل إعلام محلية بهامش ربح بلغ متوسطه 65.74%.

وعليه، وُجّهت له تهمة إخفاء المحسوبية، واختلاس الأموال العامة، وإساءة استخدام الملكية الاجتماعية، للاشتباه بتحصيله نحو 180 ألف يورو نفقات شخصية لشركاته.

وطالب المدّعي العام، الأربعاء الماضي، بالسجن لمدة عامين وغرامة 100 ألف يورو، فضلا عن غرامة 550 ألف يورو ضد شركتيه.

ويؤكد المحامي جيروم كيرسنتي أن بويسون شخصية بالغة الأهمية في الإليزيه، فقد كان العقل المدبر للهوية والأيديولوجية القومية لنيكولا ساركوزي. ويضيف "لقد أغنى نفسه بالمال العام عن طريق عقود لا تتوافق مع القانون العام".

يمين الوسط بزعامة ساركوزي يتصدر الانتخابات الفرنسية
اتفاقيات مع شركات استطلاع الرأي كشفت عن فساد ومحسوبية واختلاسات مالية في قصر الإليزيه أثناء ولاية ساركوزي (الجزيرة)

أحكام وغرامات أخرى

وأما المدير السابق لمعهد "إيبسوس" للاستطلاع، بيير جياكوميتي، فقد وقع عقدا مع الإليزيه في 16 مارس/آذار 2008، نيابة عن الشركة بأكثر من مليوني يورو، وكانت مهمته تقديم الاستشارات الإستراتيجية والاتصال.

وفي ما يخص تهمة إخفاء المحسوبية، فقد طلب الادّعاء بسجنه 6 أشهر مع وقف التنفيذ وغرامة 70 ألف يورو، وأخرى ضد شركته قدرها 250 ألف يورو.

وفي السياق نفسه، يخضع للمحاكمة أيضا جوليان فالبريه، مستشار ساركوي، الذي أمر بإجراء استطلاعات رأي عبر البريد الإلكتروني أو الهاتف من معاهد الاستطلاع.

كما تم الحكم على معهد "إبسوس"، الأبرز في استطلاعات الرأي في فرنسا، لأنه شارك في إخفاء المحسوبية بالاستطلاعات التي أمر بها فالبريه بقيمة 1.5 مليون يورو.

وبرر المتهمون في دفاعهم أن استطلاعات قصر الإليزيه تشكل "تقليدا" يعفيهم من تطبيق قواعد العقود العامة.

"الغائب ساركوزي"

تعدّ هذه القضية سابقة في تاريخ القضاء الفرنسي، إذ لم تجبر العدالة رئيس دولة من قبل على الإدلاء بشهادته في قاعة المحكمة.

وبموجب المادة (67) من الدستور "يتمتع رئيس الدولة بحصانة جنائية ومدنية على الأفعال التي ارتكبها قبل ولايته الرئاسية وخلالها".

ومن ثم، لا يمكن مقاضاة نيكولا ساركوزي، المحمي بالحصانة، في قضية استطلاعات الإليزيه. لكن القضاة قرروا استدعاءه للشهادة يوم الثلاثاء الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، باعتبارها "ضرورية لإظهار الحقيقة"، ولكونه المستفيد الأول من استطلاعات الرأي، إلا أنه رفض وندّد بالقرار "المخالف للدستور".

ويقول المحامي جيروم كيرسنتي إن جمعية مكافحة الفساد "أنتيكور" تعدّ ساركوزي "الغائب الرئيس" عن القضية، وقال إنه لو استمر في الرفض، كانت المحكمة ستأمر الشرطة بإحضاره بالقوة.

ويشكل هذا تهديدا تاريخيا، فلم يحدث أن قاضيا هدد رئيسا سابقا للجمهورية وأرغمه على المجيء بالقوة. ونتيجة لذلك، أُجبِر ساركوزي على المثول أمام المحكمة للشهادة مطلع الشهر الجاري.

أموال القذافي تقود ساركوزي للاحتجاز
التحقيق في شبهات فساد معاوني ساركوزي وفي اتفاقيات استطلاعات الرأي بدأ منذ عام 2010 (الجزيرة)

عُرف الجمهورية الخامسة

يشير المحامي كيرسنتي إلى أن جمعية أنتيكور واجهت عقبات في عام 2010، إذ لم يكن من حق جمعيات مكافحة الفساد أن تصبح طرفا مدنيا أو تقدم شكوى بموجب القانون الفرنسي.

ويضيف "قبل وصول ساركوزي إلى الرئاسة عام 2007، كان الإليزيه منطقة خارجة عن القانون، ولم تكن هناك أي ممارسة للمؤسسات العامة على الإطلاق منذ بداية الجمهورية الخامسة".

واستند المدعي العام آنذاك إلى المادة (67)، قائلا إن الحصانة تشبه "القبعة" تمتد صلاحيتها إلى جميع العاملين والمتعاونين في الإليزيه. ومن ثم، وجب التوجه إلى محكمة النقض للبتّ في مسألة الفساد والاختلاس. وهذا ما فعلته الجمعية ولم تتوقف عند تبريرات الادّعاء، لأن الحصانة تقتصر على الرئيس ولا تشمل موظفيه.

ويقول كيرسنتي إن حصانة الرئيس مهمة لأنها تسهم في الحفاظ على استقرار البلاد، إلا أنها يجب أن تسمى "حُرمة" وتكون فعالة خلال فترة الرئاسة فقط، حتى يكون بمقدور القاضي النظر في أفعاله بعد انتهاء ولايته، "لأنه لا يمكن تقديم شيك على بياض لإجراءات قد تكون غير قانونية يعقبها الإفلات من العقاب تحت ذريعة الحصانة".

ساركوزي يتعهد بإعادة هيبة الدولة ووقف الهجرة
الكشف عن فضائح الفساد في ولاية ساركوزي أسس لدعائم قضائية جديدة (الجزيرة)

استقلال العدالة

وبينما بدأ قاضي التحقيق النظر في حيثيات القضية منذ 11 عاما، كان ديوان المحاسبة يقدم تقارير سنوية لرصد نفقات الإليزيه، وخاصة المتعلقة بالاستطلاعات والاتصالات.

وأصبح هذا "الجسم المضاد" حزبا مدنيا جعل القصر الرئاسي يدخل إلى جلسة الاستماع لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة، وأسهم في تغيير عُـرفها القديم، حتى إن فرانسوا هولاند، الذي تم انتخابه لاحقا، قام بتعيين كريستيان توبيرا حارسا للأختام.

وكانت فضيحة "كاهوزاك" هزت الساحة السياسية الفرنسية عام 2012، عندما ثبت أن وزير الاقتصاد والمالية، جيروم كاهوزاك، يملك حسابات سرّية في سويسرا، وأدت إلى ظهور "قانون الشفافية" الذي اعتمده البرلمان الفرنسي عام 2013، وأرسى دعامتين في القضاء الفرنسي؛ أولهما إنشاء مكتب المدّعي المالي الوطني المستقل عن السلطة السياسية، وثانيهما السماح لجمعيات مكافحة الفساد بأن تصبح أحزابا مدنية، وهو ما لم يكن ممكنا من قبل.

والآن، ينتظر المحامي جيروم كيرسنتي نتيجة مداولات 21 يناير/كانون الثاني 2022، بأمل الوصول إلى استقلال تام للعدالة عن السلطة السياسية.

المصدر : الجزيرة