أرقام فلكية تستنزف ميزانية الدولة.. تعرف على رواتب المناصب العليا في العراق
لم يكن لهدر المال العام وضياع ميزانية العراق شكلا واحدا قطعا، إذ باتت لهذه الظاهرة عدة أشكال بأساليب مختلفة وبطرق ملتوية، أبرزها -حسبما يرى مراقبون وخبراء- الرواتب الخيالية الفلكية للرئاسات الثلاث بالدرجة الأساس والوزراء وأعضاء البرلمان والدرجات الخاصة الأخرى.
وسجلت سنوات ما بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003 عدة صفحات في سجل الفساد للطبقة السياسية الحاكمة وهدرها للمال العام والاستحواذ على أموال الشعب والدولة وتمسكها بمناصبها وامتيازاتها واحتكار عوائلها والمقربين منها للمناصب والوظائف الحكومية ذات الامتيازات المالية والمعنوية.
وتداولت مواقع التواصل الاجتماعي قضية رئيس الجمهورية الأسبق غازي عجيل الياور واعتراض محكمة التمييز على طلبه المتعلق بقرار إيقاف راتبه التقاعدي بموجب قانون التقاعد الموحد لعام 2014.
ويبلغ الراتب التقاعدي الشهري للياور -حسب ما تداولته تلك المواقع- 61 مليونا و680 ألف دينار عراقي (نحو 51 ألف دولار أميركي)، وكلّف مجموع الرواتب التقاعدية التي تقاضها لـ19 عاما من بداية 2004 ولنهاية 2019 ميزانية الدولة قرابة 11 مليار دينار عراقي نحو (9 ملايين و596 ألف دولار)، تضاف لها رواتب الحمايات والمخصصات الأخرى.
التجارة السياسية
وتكمن مشكلة الشعب العراقي رغم حالات الفساد المستشرية في مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة اعتقاده بأن الامتيازات الرسمية للدرجات الخاصة العليا في الدولة هي المكسب الذي يتقاتل من أجله السياسيون، لكن الأمر يختلف خارج الأضواء.
وتزداد التجارة السياسية للمنصب في الدولة العراقية كلما شغلت منصبا أعلى في الحكومة، وأصبحت تمتلك عدة منافذ للتجارة الربحية، كما يرى المحلل السياسي إبراهيم الصميدعي.
ويحتفظ العراق بأعلى رقم موظفين من أصحاب الدرجات الخاصة في العالم قياسا بعدد السكان من درجة مدير عام فما فوق في الوظائف المدنية، وجنرال عسكري برتبة عميد فما فوق في الوظائف العسكرية، محتلاً مراتب متقدمة عالميا من حيث ارتفاع أرقام هذه الرواتب.
ومع ذلك لا تشكل هذه الظاهرة ما يقدر بنحو 0.06% في الموازنة الرسمية للدولة، لكن مصادر الثراء الفاحش الذي حصلت عليه الطبقة السياسية وكبار موظفيها -كما يقول الصميدعي- لم تكن يوما من الرواتب والمخصصات الرسمية بالرغم من أن الأميركيين منحوا رواتب هي الأعلى عالميا عند تأسيسهم للنظام السياسي عقب الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، مؤكدا أنها تجاوزت في الرئاسات ونوابهم وبعض الوزارات الأمنية مبلغ المليون دولار أميركي شهريا.
مقاولات عامة
وجاء الثراء الفاحش للطبقة السياسية من استغلال موارد الدولة من خلال المراكز الحكومية للحصول على عمولات تتجاوز ملايين الدولارات شهريا، وقد تصل الأرقام إلى مليارات الدولارات.
وقد أشار السياسي الاقتصادي العراقي الراحل أحمد الجلبي إلى أن شركة عامة واحدة بإدارة مدير عام في وزارة التجارة قد اختلست ما لا يقل عن ملياري دولار في سنة واحدة وفي مادة واحدة وهي زيت الطعام بنهاية عام 2010!!
ويُشبّه الصميدعي المناصب السيادية العليا بأنها أشبه ما تكون بـ"المقاولات العامة"، مؤكدا أنها تدر عائدات بمليارات الدولارات في الدورة الواحدة من خلال الفساد وسوء استغلال السلطة.
ويحذر الصميدعي من أن الدولة على وشك الانهيار الاقتصادي بعد أن أصبحت مشكلة تسديد رواتب الموظفين والذين يعد عددهم الأكبر عالميا مقارنة بعدد السكان هي أهم المشاكل بسبب العجز المالي الكبير عقب انخفاض أسعار النفط الذي يشكل أكثر من 95% من الموازنة، وعدم بلوغ كل الإيرادات النفطية حاجز نصف مبالغ الرواتب العمومية فقط.
وتساءل الصميدعي "كيف لهذه الدولة أن تدير أمورها مع اقتراب انتهاء عصر النفط واختفاء النشاط الصناعي والزراعي والاستثماري بشكل شبه كامل من خارطة الدولة الاقتصادية؟".
ويتقاضى رئيس الجمهورية راتبا شهريا قدره (50 مليون دينار) إضافة إلى 40 مليونا بدلات وضيافات أي ما يعادل 73 ألف دولار، فيكون ما يتقاضاه سنويا 876 ألف دولار، وفي 4 سنوات يصل إلى 3 ملايين و504 آلاف دولار.
أما رئيس مجلس الوزراء ونوابه فيتقاضون 40 مليون دينار عراقي إضافةً إلى 20 مليونا بدلات وضيافات، فيكون المجموع الشهري نحو 65 ألف دولار أميركي، وسنويا نحو 780 ألف دولار، وخلال 4 سنوات 3 ملايين و120 ألف دولار.
ويستلم رئيس مجلس النواب 35 مليون دينار عراقي معه 20 مليونا بدلات وضيافات شهريا، فيكون المجموع الشهري 55 مليون دينار عراقي أي ما يعادل نحو 44 ألف دولار، وسنويا تقريبا 528 ألف دولار أميركي، وخلال 4 سنوات يصل إلى مليونين و112 ألف دولار أميركي.
أما الوزراء فرواتبهم الشهرية تبلغ 20 مليون دينار عراقي، يضاف لها 15 مليونا بدلات وضيافات، فيكون المجموع شهريا 35 مليون دينار عراقي، أي ما يعادل 28 ألف دولار أميركي، وسنويا 336 ألف دولار، وخلال 4 سنوات نحو مليون و344 ألف دولار أميركي، حسب وسائل إعلام عراقية.
جذور الفساد
وبدأ أصل الفساد في العراق بتخصيص الرواتب العالية والخيالية التي منحها الحكام لأنفسهم مع المنافع والمخصصات الشهرية، كالمثال الذي ذكره رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية بأنه يستلم شهريا مليون دولار أميركي، وهو ليس راتبه وإنما مخصصات إضافية.
ولا توجد دولة في العالم تخصص مثل هذه الرواتب الفلكية لمسؤوليها مثل العراق، حسب الخبير الاقتصادي د. همام الشماع، قائلا للجزيرة نت إن مهام رئيس الجمهورية بروتوكولي تشريفي وأما نوابه لا واجب لديهم، لكنهم يتقاضون شهريا رواتب خيالية مع المخصصات والمنافع، ناهيك عن أعداد أفراد الحمايات والمركبات التي يشغلونها ومصاريفها.
وللدولة العراقية قرابة 5 آلاف مدير عام صعودا من الدرجات الوظيفية الأخرى، وهذا يشير بشكل واضح إلى هدر الموازنة بشكل عام، وعندما بدأت هذه الممارسات -كما يرى الشماع- بدأ الفساد يستشري في الدولة وأصبح المال سائبا لكل من هب ودب.
وليس من المعقول أن يحاول المستفيد تغيير الوضع ليتضرر ونادرا ما نجد أشخاصا أو مسؤولين يضحون بمصالحهم وامتيازاتهم الشخصية من أجل الصالح العام، وأصل المشكلة يكمن في النظام وليس في الأشخاص. حسب رد الشماع على سؤال للجزيرة نت عن أسباب عجز البرلمان والحكومة في معالجة ظاهرة الرواتب العالية للمسؤولين في الدولة، واصفا إياها بالباب الذي يدخل منه الهدر والفساد المالي والإداري.
وكان رئيس ديوان الرقابة المالية العراقية صلاح نوري قد كشف في حديث له عن وجود ما وصفها بـ"خروقات كبيرة" -في تقاعد كبار المسؤولين كأعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الحكم ومجلس النواب للدورات السابقة والوزراء السابقين جميعا- خلفت هدرًا ماليًا بلغ 53 مليار دينار عراقي (نحو 78 مليون دولار)، بعد أن كلّف مجلس النواب ديوان الرقابة المالية بتدقيق الرواتب التقاعدية لجميع الموظفين السابقين بعد عام 2003.