يعيشون بين ناريْ التمسك بها والعجز عن ترميمها.. سكان المناطق المتضررة من نكبة بيروت: منازلنا كرامتنا

في أحد شوارع منطقة الكرنتينا المحاذية لمرفأ بيروت، بدأت ماري عبود (60 عاما) بترميم منزلها، رغم الدمار الكبير الذي لحق به. ولدى سؤالها عن احتمال بيعه، جزمت للجزيرة نت "بيتي ما كان ولن يكون للبيع يوما"، وقالت "أطلب المساعدات المالية من عائلتي لترميم منزلي المدمر، ولن أنتظر الدولة التي لم تلتفت لنا، كما لن أرضخ لعروضات الشراء مهما بلغت قيمتها، لأن لا قيمة لنا من دون منازلنا التي نسكنها منذ 25 عاما".
ورغم مضي أكثر من ٣ أسابيع على انفجار 4 الشهر الجاري، لم يقو بعد منكوبو العاصمة اللبنانية على محو آثار الدمار، وفي حين يستمر مسح الأضرار في آلاف البيوت المدمرّة جزئيًا أو كليًا، لم تنطلق بعد عمليات الترميم وإعادة الإعمار.
وكأنه لا يكفي هؤلاء ما حل ببيوتهم وأرزاقهم ومستقبلهم، ليأتي عامل قلق إضافي تمثل في تهافت بعض المشترين وسماسرة العقارات لتقديم عروض مغرية لشراء المنازل المدمرة، ناهيك عن ملاك العقارات الذين يحاولون استغلال التفجير لطرد المستأجرين من منازلهم.

"مصير مجهول"
وعلى بُعد مئات الأمتار من منزل ماري، يقول غسان الخطيب (54 عاما) للجزيرة نت أن مالك المبنى الذي يسكنه منذ 18 عاما، طلب من جميع السكان إخلاء منازلهم نهاية العام الحالي، بـ "هدف هدم المبنى وبناء آخر يدرّ عليه أرباحا مالية طائلة، بينما نحن نُترك لمصيرنا المجهول" وفق الخطيب.
هذا الواقع، يؤكده ميشال فياض (70 عاما)، وهو أحد مخاتير منطقة "الرميل" في الأشرفية منذ 22 عاما، ويشير للجزيرة نت إلى أن أهالي "الرميل" يتعرضون للاستغلال ممن يصفهم بـ "منتحلي الصفة".
ويتابع "طلب مجهولون لائحة بأسماء السكان مالكين كانوا أو مستأجرين بحجة تقديم المساعدات للعائلات المنكوبة، فرفضت تقديم اللوائح إذا لم تتضح أنواع المساعدات، فعادوا وطلبوا مني لوائح الشطب للناخبين، ثم سألوا أخيرا إن كان هناك بيوت معروضة للبيع في الرميل بهدف شرائها".
وأدرك فياض سريعا أهدافهم، فأكد لهم أن عقارات المنطقة المدمرة التي يسكنها نحو 80% من المستأجرين القدامى، وهو أحدهم، ليست للبيع. تابع "أخشى أن يستغل الطامعون من سماسرة ومقاولين هذه الأزمة، لتهجير الناس قسرا"، وختم بأن "العائلات المنكوبة لا تحتاج لمساعدات غذائية وصحية، وإنما للإسراع في عمليات الترميم حفاظًا على بقائها".

معوقات الترميم
وشكل انفجار الرابع من أغسطس/آب الجاري ضربة قاضية في خضمّ أسوأ أزمة اقتصادية ومالية يعيشها لبنان منذ عقود، مما قد يفسح المجال لكثير من عروض "الاستغلال"، في وقت يعاني فيه اللبنانيون من شحّ السيولة ويعجزون عن سحب ودائعهم من المصارف.
في المقابل، أظهر مسح قامت به نقابة المهندسين في بيروت على 1572 مبنى من أصل 2512 موزعة على المنطقتين الأكثر تضررًا (المدور-الكرنتينا والرميل)، أن هناك 171 مبنى مهددا بالانهيار الكلي أو الجزئي (أي بنسبة 19%) و245 مبنى فيها تشققات داخلية أو خارجية (أي بنسبة 15%) و57 مبنى فيها عناصر غير إنشائية مهددة بالانفصال. وأوصت النقابة بتدعيم سريع لـ 235 مبنى وإخلاء 112 مبنى وعزل 52.
وفي السياق، يشير نقيب مشيدي الأبنية في لبنان إيلي صوما إلى أن النقابة بالتعاون مع بلدية بيروت وجمعية تجار البناء ما زالت في مرحلة الإحصاء ومسح الأضرار.
وقال للجزيرة نت إنه "لا أحد يستطيع تقدير التكلفة النهائية للترميم، ونحتاج أسبوعين إضافيين لتحديدها، لكنها تقدّر بمئات ملايين الدولارات، بينما يعاني لبنان من ظرف استثنائي أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية المدولرة، من الإسمنت والزجاج والأخشاب والباطون وغيرها".

وانطلاقًا من هذا الواقع الاقتصادي، ترى المحامية مايا جعارة -المستشارة القانونية للمستأجرين القدامى- أن الظرف عزز فرص استغلال العائلات المنكوبة التي تعيش بين نارين، التمسك بمنازلها والعجز عن ترميمها أو إعادة بنائها.
وتروي جعارة للجزيرة نت ما عرض عليها شخصيًا من قبل بعض "طالبي الشراء". إذ قُدّمت عروض شراء لمنازل أقاربها عبر وسطاء غير مباشرين.
وأوضحت "عروض الشراء كانت تقدّم نقدا وبالدولار الأميركي لإغراء المالكين المنكوبين لكنهم رفضوها. كذلك وردتني اتصالات لشراء بعض العقارات التي أملكها في منطقة المدوّر المنكوبة، ورفضتها أيضا".
ولا تجد جعارة ما يثبت أن ثمة عملًا منظما يديره سماسرة العقارات فيما بينهم، لكنها تستغرب العروض، "قبل أن تجف دماء الجرحى والضحايا، مما يعطيها طابعا استغلاليا للنكبة".
من جهته، يقرّ نقيب المقاولين في لبنان مارون حلو بأن هناك تجار عقارات حاولوا استغلال الأزمة، ويكشف للجزيرة نت أنه بعد أيام قليلة من انفجار مرفأ بيروت، جرى سحب نحو 70 ملفا لعقارات في منطقة الجميزة ومحيطها من قبل سماسرة ومقاولين، بهدف العمل على تقديم عروض لشرائها، أو ضم عقاراتها أو استثمارها في مشاريع سكنية جديدة.
وكانت بلدية بيروت أوعزت لمالكي البيوت المدمرة عدم بيعها. لكن جعارة تعتبر أن هذا الإيعاز غير كاف، و"لا بد من إصدار قانون استثنائي يمنع عمليات البيع والشراء، إلى حين الانتهاء من عمليات الترميم والإعمار".