بلهارسيا وطاعون وكوليرا.. كورونا يثير ذاكرة الأمراض والأوبئة بمصر

People wearing a protective mask in Cairo, Egypt, on March 8, 2020. Egyptians who wants to travel gathering front of egyptian health ministry to do corona-virus analysis before travel as a condition to enter the other countries. (Photo by Islam Safwat/NurPhoto via Getty Images)
الخوف سيطر على المصريين من فيروس كورونا خاصة أن ذاكرتهم الشعبية تختزن تاريخ الأوبئة التي تفشت ببلادهم قديما (غيتي)

حسن المصري-القاهرة 

على غرار معظم شعوب الأرض لا يعلو صوت بين المصريين فوق صوت الحديث عن فيروس كورونا (كوفيد-19)، خاصة مع الانتشار السريع للفيروس في أرجاء العالم.

ولم تشهد مصر تفشيا واسعا للفيروس وفقا للبيانات الحكومية، حيث أعلنت وزارة الصحة أمس السبت تسجيل 40 إصابة جديدة بفيروس كورونا و6 وفيات، ليرتفع العدد إلى 576 مصابا و36 وفاة.

وكشف المتحدث باسم وزارة الصحة عن عزل عدة مدن وقرى في عشر محافظات، لمنع انتشار فيروس كورونا الذي تسبب حتى الآن في عشرات الوفيات ومئات الإصابات، لكنه لم يذكر المناطق المشمولة بهذا القرار، وفقا لتصريحاته الصحفية.

وعلى الرغم من هذه الأرقام الرسمية المتدنية مقارنة بالدول الموبوءة فإن الخوف سيطر على الشارع المصري الذي تختزن ذاكرته الشعبية أحاديث الأجداد عن الأوبئة والأمراض التي تفشت في مصر قديما وحديثا، وراح ضحيتها آلاف المصريين.


الفراعنة والدرن 
يعد مرض الدرن أو السل من أقدم الأوبئة التي عرفها المصريون القدماء، والتي حصدت أرواح ملايين البشر بمختلف دول العالم على مر التاريخ، حتى أنه قتل نحو ربع سكان أوروبا في القرن الـ19، واعتبرته منظمة الصحة العالمية من أخطر الأمراض الوبائية التي يصعب التغلب عليها.

وفي كتابه "قصة المرض والميكروب" يقول الباحث المصري محمد جوهر "شوهدت آثار السل في مومياوات المصريين القدماء، والعبارة الشائعة (ينخر السوس عظامه) إن انطبقت على شيء فإنها تنطبق على ما تحدثه جرثومة هذا المرض في العظام، فهي كما تصيب الرئة تصيب العظام فتنخرها".

وأوضح جوهر أن العلماء وجدوا آثار تسوس السل في العمود الفقري بالكثير من المومياوات المصرية، مشيرا إلى أن تتبع نتائج تحاليل الأحماض النووية للكثير من المومياوات -التي يرجع بعضها إلى نحو أربعة آلاف عام قبل الميلاد- أظهرت للعلماء أن المرض فتك بالكثير من المصريين القدماء. 

البلهارسيا والأرواح الشريرة 
في عام 1910 نشر العالم الإنجليزي أرموند روفر في المجلة الطبية البريطانية نتائج بحثه عن المومياوات المصرية القديمة التي يعود تاريخها لنحو 1200 عام قبل الميلاد، موضحا أنها كانت مصابة بمرض البلهارسيا.

وعرف المصري القديم مرض البلهارسيا، واعتقد أنه بسبب الأرواح الشريرة، وهو ما رصده العلماء في العديد من البرديات التي كشفت أن المصري القديم أطلق على البلهارسيا اسم "عاع"، وفقا لبردية "إيبرس"، وهي بردية طبية كتبها الفراعنة عام 1550 قبل الميلاد.

وأظهرت البردية طريقة الوقاية من الإصابة بطفيل البلهارسيا الموجود في المياه العذبة والمستنقعات، بل وتوصلوا للعلاج باستخدام أملاح الأنتيمون الذي عرفت فيما بعد بالقرن الـ19 باسم "الطرطير المقيء" في علاج البلهارسيا.

ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، توجد كل من البلهارسيا المعوية والبولية في مصر، لكن البلهارسيا المعوية -التي تسبب أمراض الكبد- سائدة في دلتا النيل شمال مصر، بينما البلهارسيا التي تصيب الجهاز البولي سائدة في وادي النيل من جنوب القاهرة وصولا الى أسوان وجنوبها.

وشهدت مصر حملة كبيرة للقضاء على المرض في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وكانت الإعلانات التلفزيونية تكرر على المصريين تحذيرات على مدار الساعة بشأن خطورة الاستحمام في مياه الترع والتي تؤدي إلى الإصابة البلهارسيا.


الشدة المستنصرية
وفي العصر الفاطمي ظهرت الأوبئة بمصر لغياب فيضان النيل لسبع سنوات كاملة، وهو ما أدى إلى ظهور القحط والفقر والأوبئة، ووصفه المؤرخون بـ"الشدة المستنصرية" نسبة إلى الخليفة الفاطمي المستنصر بالله.

وفي كتابه "الإفادة والاعتبار"، يقول عبد اللطيف البغدادي المعروف باسم ابن اللباد "كانت الأوبئة والطواعين كثيرة الحدوث في مصر الإسلامية لتوفر العوامل المهيأة لحدوثها، ففضلا عن المجاعات التي كانت تتسبب في موت كثير من الناس وتعذر الدفن السريع مع كثرة الموتى وعدم ارتقاء الطب الوقائي فإن فساد المياه وعفونتها وركودها أول الفيضان الجديد كانت تسبب الوباء".

وبحسب بعض المؤرخين، فقد وقع في تلك الفترة من الأعاجيب ما يأبى العقل تصديقه، فبحسب المؤرخ ابن إياس "كان الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله، وصار الناس في الطرقات إذا قوي القوي على الضعيف يذبحه ويأكله".

الموت الكبير

وضرب الطاعون مصر مرة أخرى عبر السفن القادمة من الخارج، خاصة وقت تفشي المرض بأوروبا، فيما عرف وقتها بالموت الكبير، وتسبب وقتها في مقتل نحو 900 ألف من المصريين في شهري شعبان ورمضان فقط بين عامي 1347 و1349م، وسادت وقتها حالة من الهلع وساءت الأوضاع الاقتصادية بسبب المرض المتفشي، بحسب المؤرخ المصري ابن إياس. 


الكوليرا
جاءت الكوليرا لتكون من الأوبئة الأشد قسوة على المصريين بعد الطاعون، حيث كشر الوباء عن أنيابه بمصر عام 1831، ففي شهرين فقط حصدت الكوليرا أرواح 150 ألفا من المصريين.

وفي عام 1895 كان المصريون على موعد مع الكوليرا مجددا عبر رحلات التجار وزوار مصر من الخارج، حيث ظهر المرض بمحافظة دمياط، وكانت تكتب على جوازات البواخر وشهادات المراكب الشراعية عبارات للتحذير من تفشي المرض، مثل "توجد الكوليرا الآسيوية بدمياط، أما الصحة العامة في باقي المدن المصرية فهي جيدة" بحسب كتاب "دمياط في التاريخ الحديث" للباحث المصري راضي محمد جودة.

وعاد المرض مرة أخرى ليكشر عن أنيابه عام 1947، حيث ظهر في قرية القرين بمحافظة الشرقية، ووصلت نسبة الإصابات إلى نحو 20 ألفا توفى نصفهم تقريبا، لكن تمت السيطرة على الوضع بعد نحو 6 أسابيع، تدفقت خلالها المساعدات الخارجية لمصر للحد من انتشار المرض.


الالتهاب الكبدي الوبائي
وفي عام 2008 كشفت البيانات الرسمية أن واحدا من بين كل 10 مصريين مصاب بفيروس "سي" المؤثر على الكبد، والذي كان يموت بسببه نحو 40 ألف مصري سنويا.

ولم يدرك أحد وقتها أن السبب يعود إلى إجراءات خاطئة متصلة بعلاج البلهارسيا التي ضربت البلاد على مدار القرن العشرين، حيث انتشر المرض بالتزامن مع حملات العلاج الجماعية التي نفذتها الحكومة بإعادة استخدام الإبر المخصصة لعلاج البلهارسيا لأكثر من مرة مع أكثر من شخص.

ومع تقدم طرق العلاج واتجاه مصر للقضاء عليه بشكل كامل تضاءلت نسب الإصابة بالمرض إلى نسب كبيرة وفق منظمة الصحة العالمية، حيث أطلقت مصر بالتعاون مع منظمات دولية حملة للقضاء على المرض داخل البلاد.

المصدر : الجزيرة