رحيل شمس بدران.. جنرال جمهورية ما وراء الشمس
بينما كانت الهزيمة عارية تحت الشمس ومن تبقوا من الجنود تائهين وسط الرمال تدثّر جنرالات الجيش بمناصبهم يمهدون لمواجهة تنجيهم من المحاسبة وتساعدهم على الاستمرار في خداع الشعب الذي أغوته الشعارات.. وهكذا كانت حرب الخامس من يونيو/حزيران 1967 هي السبيل الأكثر قسوة لإدراك الحقائق وكشف أطماع رجال الدولة حتى على حساب الدولة نفسها.
وفي الصفوف الأمامية للطامعين في السلطة والبقاء فيها وقف شمس بدران وزير الحربية في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، والذي وافته المنية أمس الاثنين عن عمر ناهز الـ91 عاما في منفاه ببريطانيا.
ويأتي أفول حياة شمس بدران مع نهايات عام 2020 ليجدد في الأذهان سيرة الرجل الذي ظل اسمه لسنوات مقترنا بمصائر الغائبين في معتقلات حقبة الستينيات من القرن الماضي، وبالجثث التي عادت والتي لم تعد من شبه جزيرة سيناء بعد هزيمة الجيش المصري الكارثية أمام إسرائيل في حرب الخامس من يونيو/حزيران 1967.
مسار شمس بدران
ولد شمس الدين علي بدران في 19 أبريل/نيسان 1929 بمدينة الجيزة، وبعدما أنهى تعليمه الأساسي التحق بالكلية الحربية التي درس فيها لمدة 6 أشهر فقط، حيث كان طالبا ضمن الدفعة التي تخرجت بشكل استثنائي عام 1948 لتلتحق بالقوات المشاركة في حرب فلسطين.
وكان الطالب حديث التخرج ضمن القوات المصرية التي حوصرت في منطقة الفالوجة، حيث التقى هناك بكثير من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، وعلى رأسهم اليوزباشي جمال عبد الناصر الذي سيضمه للتنظيم بعد ذلك بهدف تجنيد ضباط اللواء السادس الذي كان شمس بدران أحد عناصره.
بعد عودته من حرب فلسطين -وقبل تحرك الضباط الأحرار للإطاحة بالملك فاروق في 23 يوليو/تموز 1952- سافر شمس -وهو برتبة "يوزباشي"- في بعثة عسكرية إلى فرنسا، للتدريب على أعمال عسكرية.
ومع قيام دولة ضباط الجيش بعد نجاح الانقلاب على الملك نجح شمس في إيجاد مكان آمن له بين عبد الناصر الذي أصبح رئيسا وصديقه عبد الحكيم عامر الذي سيصبح القائد العام للجيش والنائب الأول لرئيس الجمهورية.
ورغم ارتباط اسم شمس بعامر فإنه ظل وثيق الصلة بعبد الناصر للدرجة التي أدت إلى اعتقاد بعض المقربين للسلطة بأنه كان عينا للرئيس على المشير، وتلك المكانة التي حظي بها بين الرجلين اللذين يقودان الدولة جعلت من اليسير اختياره وزيرا للحربية عام 1966 على الرغم من أنه لم يتجاوز الـ37 عاما وقتها، متجاوزا بذلك مئات الرتب العسكرية ذات الأقدمية والخبرة.
وليس هناك أدل على المكانة التي نالها شمس من ترشيحه من قبل عبد الحكيم عامر كي يكون رئيسا للجمهورية بعد تنحي جمال عبد الناصر في أعقاب هزيمة 1967.
وفي كتابه "حرب الـ30 عاما.. 1967 الانفجار" قال الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل "عندما أضيف إلى مجموعة القادة العسكريين المحيطين بالمشير عبد الحكيم عامر، شمس بدران كوزير للحربية فإن صورة الإدارة اختلطت بصورة الأمن".
الجنرال المهزوم
على قدر ما كانت هزيمة 1967 ثقيلة وقاتلة لوهم عاشه المصريون مع خطابات عبد الناصر الحماسية الممتلئة بوعود النصر جاءت تفاصيل ما جرى بعد الهزيمة مخزية ومدهشة، فجنرالات الجيش خاضوا صراعا من أجل الحفاظ على مناصبهم، وكان في مقدمتهم الجنرال شمس بدران.
وبداية لم تكن مسؤولية بدران في الهزيمة كونه وزيرا للحربية وقت اندلاع الحرب فقط، فالرجل -بحسب ما ذكر أكثر من مصدر تاريخي- نقل معلومة خاطئة من موسكو إلى القاهرة أخلت بحسن تقدير القيادة المصرية للمعركة الوشيكة.
فقبل الحرب زار بدران الاتحاد السوفياتي لاستطلاع رأي قادة ومعرفة موقفهم إذا نشبت الحرب في الشرق الأوسط، وعاد إلى القاهرة بمعلومة أن الاتحاد السوفياتي سيحارب مع القوات المصرية في حال تعرضها لعدوان إسرائيلي، وهو ما لم يحدث.
وبعد الهزيمة كشف السفير أحمد حسن الفقي -الذي كان عضوا في الوفد الذي زار موسكو- أن الروس لم يعدوا مصر بالوقوف إلى جانبها خلال الحرب، مضيفا أن وزير الحربية كان مشغولا خلال الرحلة بشراء الأثاث وبعض اللوازم لمنزله.
جاهل بالحرب
وفي مذكراته، قال عضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف بغدادي عن بدران أيام المعركة "كان واضحا أنه جاهل بإدارة العمليات الحربية، فقد توقفت به رحلة العلم والخبرة في القتال عند رتبة ملازم أول".
ورغم الهزيمة ودوره الأساسي فيها فإن بدران لم يتردد في التمسك بمنصبه، بل خطط مع عبد الحكيم عامر لتنفيذ انقلاب على عبد الناصر الذي بدا لهما أنه يحاول أن يخلي مسؤوليته عما جرى في الحرب ويريد التضحية بهما بإرغامها على عدم الاستمرار كقائدين للجيش.
وفي كتاب "مذكرات شمس بدران" للصحفي حمدي الحسيني -الذي شارك في إعداد حلقات سجلت مع وزير الحربية الأسبق في لندن عام 2010 ورفضت الجهات الأمنية إذاعتها- ذكر أن خطة الانقلاب على عبد الناصر كانت تقضي بنقل عامر عبر مروحية إلى وحدات الجيش لحشد الرأي العام فيها ضد الرئيس، ثم نقله إلى القيادة العامة في حراسة قوات الصاعقة ليعلن فيها مطالبه التي تتضمن إعادة جميع الضباط المفصولين بعد النكسة إلى الخدمة، وأيضا عودة المحالين للتقاعد والمعزولين.
غير أن كل الترتيبات وصلت إلى الرئيس وحوصرت فيلا المشير بالجيزة التي كانت قد تحولت في أيام ما بعد الهزيمة إلى ثكنة عسكرية لكثرة الحراسات حولها، وألقي القبض على كل المخططين للانقلاب، وعلى رأسهم بدران الذي قدّم للمحاكمة كمسؤول عن الهزيمة وكمتهم أول في قضية قلب نظام الحكم.
وصدر بحقه حكم بالأشغال الشاقة المؤبدة إلى أن أفرج عنه الرئيس الراحل أنور السادات في مايو/أيار 1974 شريطة الابتعاد عن السياسة، وهو ما نفذه وزير الحربية الأسبق، وسافر إلى بريطانيا ليستقر فيها حتى وفاته.
وقال بدران في رسالة إلى صحيفة المصري اليوم عام 2014 "لقد سجنني عبد الناصر، لأني بالتضامن مع عبد الحكيم عامر كنا نريد إقامة الديمقراطية للحكم بعد هزيمة يونيو/حزيران 67، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة لتحرير الدولة، وقد سجنت من أجل ذلك".
واستطرد "عندما أضربت عن الطعام لأسباب تتعلق بالروتين العادي في السجن أراد عبد الناصر أن يخرجني من السجن لتحديد إقامتي في منزلي، ولكني رفضت وبقيت في السجن إلى أن توفاه الله، وقد جاء لي مدير السجن ليخبرني بوفاته فلم أتمالك نفسي من البكاء، فنظر لي مستغربا وقال: لماذا تبكي؟ أليس هو الذي سجنك؟!".
ما وراء الشمس
ارتبط زمن عبد الناصر بتقييد الحريات والغياب في المعتقلات أو كما يقول المصريون "الذهاب إلى ما وراء الشمس"، وثمة أسماء محددة التصقت بمسؤولية التعذيب في سجون الستينيات من خلال روايات من تعرضوا لذلك العذاب، وعلى رأس تلك الأسماء كان شمس بدران.
ولم يبد الرجل ندما على ما فعله بمعارضي النظام، وفي مقدمتهم أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان مسؤولا عن التحقيقات في قضية قلب نظام الحكم عام 1965.
وفي مقال للصحفي محمد الضبع -وهو الذي حرر الحلقات التلفزيونية لوزير الحربية الأسبق والممنوعة من العرض- نقل تأكيد بدران على أن المعارضين نسجوا من خيالهم آلاف القصص الخرافية حول ما وصفها بعمليات التعذيب الوهمي.
وأضاف "لست ساديا، لكنني أمرت المحققين بأن يقوموا بالتحقيق بلا هوادة، فقد حملت مسؤولية لم أسع لها، فتحملتها وأمرت باستخلاص الحقائق، ولم أكن أدافع عن النظام بقدر ما كنت أدافع عن أبرياء سيتعرضون للقتل بلا ذنب على يد الإخوان المسلمين".
ووصل اقتناع بدران بأحقيته في تعذيب المعتقلين إلى أنه أرسل مذكرة -بعد أن سافر إلى بريطانيا- إلى السفارة المصرية في لندن يقول فيها إنه المسؤول عما جرى للمعتقلين خلال التحقيقات، وكان بتلك المذكرة يحاول الدفاع عن ضباط المباحث الجنائية العسكرية أثناء محاكمتهم في قضايا التعذيب.
وتعددت شهادات من تعرضوا للاعتقال في زمن عبد الناصر حول دور شمس بدران في تعذيبهم، سواء عبر لقاءات صحفية أو كتب السير الذاتية مثل كتاب "البوابة السوداء" لأحمد رائف.
وفي تصريح له، قال الدكتور رشاد البيومي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إن بدران كان يتولى تعذيبه بنفسه، واستطرد "ذات مرة قلت له: اتق الله، فرد علي قائلا: لا تذكر سيرة الجدع ده، ولو نزل من السماء فسأضعه في الزنزانة التي بجوارك".
وأوضح البيومي -الذي قضى فترة اعتقال من عام 1954 حتى 1972- أن وسائل التعذيب كانت متنوعة مثل الجلد بالسياط، والتعليق، ورش "سبيرتو" على الجسم يصيبه بالاحتراق، وملء الزنازين بالمياه حتى ارتفاع 1.5 متر، وإدخال كلاب مسعورة عليهم.