احتضنت لعقود قنصليات أجنبية.. كيف تغير استخدام مباني البلدة القديمة بالقدس؟
لا تحتضن البلدة القديمة في القدس الكنائس والأديرة والمراكز الثقافية والمدارس وبيوت الضيافة المملوكة للحكومات الأجنبية أو التابعة للإرساليات التبشيرية فحسب، بل احتضنت قديما قنصليات لبعض الدول أو مكاتب لرعاية شؤون الجاليات الأجنبية المختلفة.
مدير دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية خليل التفكجي قال إن البلدة القديمة في القدس كانت هي المركز خلال الفترة العثمانية، وبالتالي تركزت بعض قنصليات البلاد فيها، ثم خرجت عندما ظهرت الحاجة لتوسيع هذه الأبنية مع بدء البناء العمراني خارج سور القدس التاريخي، موضحا أن بعض القنصليات كانت مستأجرة أو تعود ملكيتها لبعض الكنائس.
وتطرق الخبير في الخرائط إلى موقع كل من القنصلية البريطانية في باب الخليل والقنصلية الفرنسية في حارة السعدية بالبلدة القديمة التي كانت تستأجرها فرنسا من عائلة حنضل المنحدرة من بيت لحم.
دبلوماسيون فمستوطنون
البناية أخليت قبل 4 أعوام لصالح المستوطنين بعد إقدام أحد أفراد عائلة حنضل على بيع العقار إلى جمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية، وحول فصول تسرب العقار من أيدي الفلسطينيين إلى مخالب الجمعيات الاستيطانية قال التفكجي إن العائلة أجّرت فرنسا المبنى لسنوات، وبعدها استأجرته مدرسة الأمة.
وبعد انتهاء تشييد المبنى الجديد للمدرسة خارج أسوار القدس ومغادرة المبنى القديم استأجرت عائلة قرّش المقدسية العقار من عائلة حنظل لسنوات، وأخلاه المستوطنون بالقوة متسلحين بقانون "الجيل الثالث"، وهو أحد القوانين التي سنتها إسرائيل لتسهيل إخلاء الفلسطينيين من منازلهم في القدس.
وبينما تحدث التفكجي عن الجغرافيا والاستيطان تطرق الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية لأسباب حرص الدول الأجنبية على اتخاذ مقرات لها من أبنية البلدة القديمة في القدس، وتاريخ هذه المباني وتبدل استخداماتها.
وقال إنه في الوقت الذي عملت فيه الدول الأوروبية على المخططات الإستراتيجية في القرن الـ19 بالتزامن مع ضعف الدولة العثمانية وبداية انهيارها أصبحت القدس جزءا من المخططات للحصول على مكانة معينة في الشرق الأوسط، فبدأت الدول بتأسيس قواعد دينية وسياسية وتغلغلت داخل القدس لاحقا في الناحيتين التعليمية والثقافية.
موطئ قدم في القدس
وعن اختيار هذه الدول مدينة القدس وليس أي مدينة فلسطينية أخرى لتأسيس هذه القواعد، أوضح أبو شمسية أنه في بداية ثورة نابليون عام 1789 ظهر مفهوم تأسيس وإنشاء وطن يجمع اليهود للتخلص منهم في أوروبا.
وهكذا بدأت القدس تأخذ أبعادا عدة، لأنه بالمفهوم اليهودي والمسيحي هي المدينة المركزية في العالم، وانطلق الصراع الثلاثي بين الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية بين العثمانيين من جهة، ومحاولات اليهود الحثيثة للتوصل إلى شيء يتعلق بالقدس من جهة ثانية، وبين المسيحيين ودورهم الأساسي منذ الفترة الصليبية في توجيه أي جهد سياسي أو ثقافي نحو القدس من جهة ثالثة.
القنصلية البريطانية أول قنصلية أسست داخل البلدة القديمة وفقا للباحث المقدسي وذلك عام 1849، واستكمل بناؤها عام 1850 مقابل قلعة القدس وبجوار كنيسة المسيح التي بنيت في الوقت ذاته قرب باب الخليل.
وتعتبر هاتان البنايتان أقدم المباني البروتستانتية التي شيدت في المكان بهدف ربط المفهوم الديني بالتوغل والتفكير السياسي للبريطانيين في البلدة القديمة.
وعن تحول استخدام مبنى القنصلية بعد انتقال مقرها إلى حي الشيخ جراح بالقدس، أشار أبو شمسية إلى أن المبنى ما زال بعهدة الكنيسة وحُوّل إلى مكاتب وسكن للرهبان وبيت للضيافة.
القنصليتان البريطانية والفرنسية هما الوحيدتان اللتان اتخذتا من مباني البلدة القديمة مقرين لهما، أما بقية الدول فكانت لها مكاتب لرعاية شؤون جالياتها في القدس.
أما مكتب البريد النمساوي الواقع بجوار كنيسة المسيح في باب الخليل فكان يخصص جزء منه على سبيل المثال لرعاية ومتابعة شؤون النمساويين في البلاد، وأنشئ هذا البريد عام 1878 واهتم أيضا بالجالية البلغارية آنذاك، ولاحقا تأسست القنصلية النمساوية في حي الشيخ جراح، وما زالت هناك حتى يومنا هذا.
وقد استأجر الأميركيون قديما مكتبا في جبل صهيون الواقع خارج الأسوار التاريخية، لكن بيت القنصل كان يقع داخل السور قرب باب الخليل مقابل قلعة القدس، وتحول هذا المبنى الآن إلى معهد الدراسات السويدية.
أما البطريركية اليونانية في البلدة القديمة بالقدس فكانت تدار داخل إحدى قاعاتها أيضا شؤون الرعايا اليونانيين لكن دون صفة قنصلية، وأكد أبو شمسية أن المكاتب التي كانت تدير شؤون الرعايا لم تسم حينها قنصليات لكنها كانت تقوم بكافة مهام القنصلية، وأسست القنصليات لاحقا خارج الأسوار مع ازدياد عدد رعايا الدول وبروز الحاجة لتأسيس قنصليات لها في القدس.
أما مكتب الرعايا الروس -على سبيل المثال- فكان يعمل من خلال بناية تقع حاليا في الشق الغربي من مدينة القدس وتشغلها محكمة الصلح الإسرائيلية، وبنيت عام 1864 لإدارة شؤون الروس وكافة رعايا دول البلقان بالإضافة إلى دول أوروبا الشرقية التي كانت تدين بالأرثوذكسية.
عام 1878 أنشأت المؤسسة التبشيرية الإسبانية سيدة البيلار -وتعني "سيدة الكون"- مركزا لرعاية اليتيمات ذوات الأصول الإسبانية في حارة النصارى في البلدة القديمة، وتبرع فيما بعد الملك الإسباني آنذاك بإنهاء تدشين مدرسة راهبات الإسبانيول الماثلة في المكان ذاته حتى يومنا هذا.
ويرفرف علم إسبانيا أعلى هذه المدرسة المكونة من طابقين وساحة خارجية فيها الكثير من الرموز الملكية الإسبانية، وكانت تخصص غرفها الخارجية قديما لرعاية شؤون الإسبانيين في البلاد، قبل أن تؤسس القنصلية في حي الشيخ جراح بالقدس.