أنفقوا الملايين للحصانة أم لخدمة المصريين.. لماذا يسعى النواب وراء كرسي البرلمان؟
ملايين الجنيهات يدفعها وينفقها المرشح في انتخابات البرلمان لضمان فوزه بعضويته، وتصل في بعض التقديرات إلى 50 مليون جنيه (الدولار نحو 16 جنيها)، في ظاهرة تثير عجب المراقبين للمشهد خصوصا من خارج مصر.
غير أن هذه الظواهر تمر مرور الكرام على أغلبية المصريين، وذلك من فرط اعتيادهم عليها مع كل انتخابات يفترض أن تفرز ممثلين للشعب يخدمونهم ويدافعون عن مصالحهم. فهل يدفع المرشحون كل هذه الأموال الطائلة حبا في البسطاء من أبناء دوائرهم الانتخابية ورغبة في خدمتهم؟
بداية، يؤكد مراقبون أن من غير المعلوم في مصر طبيعة مصادر الإنفاق على حملات المرشحين، وما الرقم الدقيق للمبالغ التي ينفقها كل مرشح.
وقد أظهرت النتائج الأولية -كما توقع الجميع- سيطرة حزب "مستقبل وطن" (التابع للسلطة ولكن بشكل غير رسمي) على مقاعد مجلس النواب، على غرار سيطرته على مجلس الشيوخ الشهر الماضي، وذلك وسط مقاطعة المعارضة في الداخل والخارج، وعزوف وتجاهل من المصريين للانتخابات.
السر في الحصانة
يقول بسام -وهو محام من محافظة أسيوط (جنوب) وفضّل الاكتفاء بذكر اسمه الأول فقط- إن السعي الحثيث من قبل بعض الأثرياء المعروفين لعضوية البرلمان، يخفي وراءه الرغبة في ضمان الحماية من الملاحقة القانونية، بل العمل بحرية في أنشطة غير مشروعة.
وفي صعيد مصر حيث يعيش بسام ويعمل، تكون هذه الأنشطة غير المشروعة هي تجارة الآثار وأحيانا السلاح، والحماية تأتي من الحصانة القانونية لعضو البرلمان، إذ لا يمكن لجهات التحقيق التعامل معه إلا بعد موافقة البرلمان الذي لا يوافق في معظم الحالات، ويستثني القانون من ذلك حالات التلبس بارتكاب الجرائم.
إذن هي الحصانة ما يدفع مقابلها المرشحون ملايين الجنيهات، وفق المتحدث، فتمضي سيارات النواب بسلام دون تفتيش حاملة كنوز الأجداد العتيقة من مخازنها السرية في بيوت النواب، لتصل إلى مهربين قد يدفعون للنائب في مرة واحدة ما يفوق ما أنفقه من ملايين لضمان الوصول إلى مقعده الوثير في البرلمان.
وفي واقعة شهيرة، عاير رئيس البرلمان علي عبد العال نائبا بتجارته في الآثار، قائلا "خليك في الآثار يا بتاع الآثار"، وقتها تداول محررون برلمانيون معلومة مفادها أن العضو المعني -وهو من نواب محافظة المنيا جنوبا- مشهور بين زملائه النواب بتجارته في الآثار، غير أنه محمي من الشرطة بالحصانة البرلمانية.
فضائح على لسان الموالين
وسبق أن حمت الحصانة البرلمانية النائب الخاسر مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك، من المثول أمام القضاء في عدة قضايا سب وقذف أقامتها ضده شخصيات عامة عديدة، وهو ما يمكن أن يفسر بعضا من أسباب فرح مواقع التواصل بخسارته، حيث يمكن الآن أن يخضع لتحقيق القضاء في قضايا عدة، وبالفعل تقدم محامون ببلاغات ضده.
وتردد الحديث عن أرقام فلكية تقديرا للمبالغ المدفوعة من أجل ضمان عضوية البرلمان، عبر بوابة ما يعرف بالقائمة الوطنية من أجل مصر، والتي يقودها الحزب الأقرب للسلطة "مستقبل وطن".
وقال المحامي طارق سعيد -في فيديو بثه على صفحته الشخصية في فيسبوك واعتقل بسببه- إن الأمور تنطوي على فضائح "ريحتها فاحت"، مؤكدا أن ذلك المشهد مسيء لمصر، ويعيد نفس أساليب الحزب الوطني المنحل عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
كما أكد نواب سابقون مؤيدون للسلطة، على رأسهم المحامي الشهير رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور والصحفي عبد الرحيم علي، خطورة المال السياسي المدفوع بغزارة من أجل عضوية البرلمان.
وقال منصور في مقاطع مصورة على صفحته الشخصية بفيسبوك إنه وابنه -الخاسر أيضا أمام رجل الأعمال محمد أبو العينين نائب رئيس حزب مستقبل وطن- سقطا ضحية للمال السياسي، وقال إن من يدفع 50 مليون جنيه للانضمام لقائمة مضمونة النتائج، من أين يأتي بها؟ ولماذا؟
بينما حذّر علي -في لقاء متلفز- من خطورة المال السياسي على الانتخابات بمصر، مؤكدا أن مرشحي المال السياسي ينجحون لأنهم دفعوا لا لأنهم موجودون في الشارع، وهو ما يجعلهم غير مؤثرين في مواجهة أعداء الدولة، على حد قوله.
وخسر عبد الرحيم الانتخابات، وغادر القاهرة إلى باريس بعد إذاعة تسريب صوتي له يسبّ فيه النظام ويقول إنه فوق القانون، علما بأنه كان لسنوات أحد وجوه النظام الإعلامية، بل كان -للمفارقة- أبرز المكلفين بإذاعة تسريبات تستهدف تشويه معارضي السلطة والإساءة إليهم.
وأكدت النائبة السابقة شادية ثابت -في مقطع مصور متداول بمواقع التواصل- أن من يدفع كل هذه الأموال للدخول في القائمة ولرشوة الناخبين، سيحصّلها أضعافا بطرق غير مشروعة.
وفي عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك، سجّل فيلم عمارة يعقوبيان ظاهرة تزاوج السلطة بالمال، في مشهد يطلب فيه ممثل السلطة من رجل الأعمال الفاسد الصاعد من القاع بطرق غير مشروعة، مليون جنيه ليجعله ينجح، وهو مبلغ كبير بسعر وقت إنتاج الفيلم عام 2006.
دفع ثم استرداد
وفي هذا السياق، يقول المرشح الرئاسي الأسبق أيمن نور إن المال السياسي في الانتخابات تعبير عن فساد متزايد طال الحياة العامة في مصر، وتحديدا المسار الانتخابي المؤدي لاختيار المجالس التي من المفترض أن تعبر عن الناس، لا عن قدرة المرشحين المنتخبين على دفع أموال لشراء الأصوات.
وفي حديثه للجزيرة نت، أضاف نور أن هذا الفساد هو انعكاس لحالة تجريف الحياة السياسية، وعدم وجود تيارات رئيسية وخروجها من المشهد بالكامل، وتحول الأحزاب السياسية إلى أكشاك صغيرة مصنوعة في أقبية أجهزة الأمن، لا تعرف الأفكار ولكنها تدير الأمور بمنطق المصلحة.
وقال نور -وهو أيضا برلماني سابق- إن مثل هذه الأمور كانت موجودة في مراحل سابقة بمصر، ولكنها لم تكن بهذا الشكل الممنهج، ولم تكن الأموال تُدفع للأحزاب وللدولة كي يتم شراء المقعد.
في المقابل، يقول حسام الخولي نائب رئيس حزب مستقبل وطن إن الكلام حول استخدام أعضاء الحزب للمال السياسي يمثل 1% من الانتهاكات، مؤكدا في مداخلة بإحدى الفضائيات عدم ورود شكاوى بهذا الشأن، بل إن أعضاء الحزب هم من يشتكون من الانتهاكات والمال السياسي، وكل ما يجري الحديث عنه هو حديث على وسائل التواصل وسيتم التحقيق فيها، لافتا إلى أن "هناك من يدعون نسبتهم للحزب على غير الحقيقة".
وعلى الصعيد الشعبي، تؤكد علياء -وهي موظفة لم تنتخب أحدا من مرشحي دائرتها بجنوب الجيزة- أن الأمر كان محسوما سلفا للقائمة الوطنية، لذا لم تذهب للانتخابات، فهي لا تعرف أحدا من مرشحيها، فضلا عن أن من انتخبتهم المرة الفائتة لم ترهم أبدا بعدها، لأنهم كانوا منشغلين في استرداد ما دفعوه من أموال، كما قالت للجزيرة نت.
ويتفق معها في الرأي أسامة، وهو محاسب من القاهرة أكد للجزيرة نت أن من السذاجة الظن أن أحدا يمكن أن يدفع عشرات الملايين من أجل خدمة الناس، بل بات من المعروف أن من يدفع جنيها يسترده عشرة جنيهات، ومن لا يدفع من أجل دخول القائمة الوطنية لضمان النجاح، يحاول اقتناص الفوز عبر الدفع للناخبين مباشرة، استغلالا لحاجة البسطاء للمال.