نحن هنا باقون.. حراك الجزائر يُوقف رحلات الموت

"ماراناش حارقين رانا هنا قاعدين" (لن نهاجر سريا نحن هنا باقون) ترنيمة صدحت بها حناجر الشباب الجزائري بالمظاهرات المليونية التي خرجت للجمعة الثامنة على التوالي، حاملين لافتات يؤكدون فيها أنهم لن يتركوا البلاد لحاشية الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة، وأن بوصلة قوارب المهاجرين غير النظاميين باتجاه أوروبا توقفت عقاربها بتاريخ 22 فبراير/شباط الماضي.
أدخل الحراك خفر السواحل في عطلة مؤقتة، بعد أن كانت يومياتهم تصنعها أخبار توقيف مهاجريين غير نظاميين أو العثور على بقايا جثتهم التي غدرت بها قوارب مهترئة هشة بالبحر المتوسط مثلما حدث لـ 13 شابا من حي "الرايس حميدو" في العاصمة.
أبحر هؤلاء في رحلة الموت من شواطئ مدينة عنابة على بعد 600 كلم شرق العاصمة الجزائر في ديسمبر/كانون الأول الماضي، فابتلع البحر عشرة منهم قبالة سواحل جزيرة سردينيا الإيطالية.
كان يمكن أن يلقى نذير بوشلاغمي ذو 23 ربيعا نفس المصير قبل أن تهب رياح التغيير مع بداية الحراك، فقد كانت تجمعه جلسات طويلة مع رفاقه بالحي المطل على الواجهة البحرية للعاصمة من أجل التخطيط لبلوغ الضفة الأخرى من المتوسط عبر ما يسمى محليا "الحرقة" إلا أنهم أبحروا في رحة "اللاعودة" من دونه.
يقول نذير في حديث مع الجزيرة نت "نار الحزن التي أشعلتها صدمة غرق شباب الحي لن تخمد إلا برحيل النظام برمته، الأمل قد عاد، نحن هنا باقون وهم من سيرحلون.. لكن إلى السجون طبعا".
يخرج الشاب كل يوم جمعة من أجل المشاركة في المسيرة السلمية المليونية مع رفاقه من شباب الحي -ومنهم أشقاء ضحايا مأساة الغرق- وهم يحملون لافتات لصور الضحايا الذين لم يتجاوز معدل أعمارهم 23 سنة.
يقول إنه لا هو ولا أحد ممن أبحروا في رحلة الموت كان سيفكر في أن يركب "نعشا" لقبر بلا عنوان، لو لم يبلغ به اليأس والإحباط أقصى حدوده، وضع يرى أن النظام يتحمل مسؤوليته.
يضيف نذير -وهو تقني في تركيب كاميرات المراقبة- أنه أنهى تكوينه منذ سنوات ولم يباشر العمل إلا مؤخرا، مؤكدا أنه سيواصل الخروج إلى الشارع ليضم صوته إلى صوت الملايين حتى أن يرحل آخر فرد ممن سرقوا أحلام الشباب فـ "أنا وأمثالي الكثير نريد استعادة وطننا، ولا نحلم بأكثر من وظيفة وعمل محترم وسيارة وزوجة، ألا ترين أن أحلامنا حقوق في الدول التي تحترم شعبها؟".
وكانت الداخلية قد أعلنت أنه تم خلال سنة 2018 انتشال 119 جثة من شواطئها وتم تسجيل 96 حالة مفقود بسبب ظاهرة الهجرة غير النظامية عبر البحر، هؤلاء أبحروا على متن قوارب كثير منها غير صالح للإبحار وبعتاد غير ملائم ويفتقد لأدنى شروط الأمن والسلامة.
"سنسافر لكن للسياحة"
فكرة الهجرة وراء البحار لم تعد أيضا ضمن أجندة سالم حميد البالغ من العمر 24 سنة، المنحدر من مدينة الرغاية الساحلية بالضاحية الشرقية للجزائر العاصمة، معقل رجل الاعمال محيي الدين طحكوت المحسوب على النظام، أخذ الشاب جرعة أمل كافية منذ بدأ الحراك حتى يغير مخططاته.

يقول سالم (موظف بمؤسسة للتجارة الدولية) الذي لم يفوت الخروج في المسيرات أيام الجمعة منذ بدْء الحراك للجزيرة نت "لا أمل كان يلوح في الأفق قبل شهرين، لا شيء كان يشجع أبناء جيلي على البقاء هنا، البلاد كانت تسير نحو المجهول والمخرج الوحيد للشباب أمثالي كان وراء البحر".
ويواصل أن أكثر المتفائلين من أقرانه ما كان ليفكر أن الحياة ستدب في شعب آمن النظام أن إرادته قد سُلبت ولم يعد مخيرا لتقرير مصيره فـ "لست أدري كيف ولا متى حدث ذلك؟ ما أعرفه أنني أصبحت أرى حاضري ومستقبلي هنا في هذه البلاد، لن أسافر إلا للسياحة، ولن أبرح ميدان الحراك قبل أن ينتهي عهد من وأد أحلام أجيال لعقود، وليس لعشرين سنة من حكم بوتفليقة فحسب".
يمشي سالم مع رفيقه أسامة (الأستاذ بالتربية البدنية) وكانت فرقتهما سابقا فكرة الهجرة وجمعهما الحراك، يحلمان بدولة عادلة وقوية تكتسب ثقة الشعب ولسان حالهما يردد الأبيات الخالدة للشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد "هنا .. على صدوركم، باقون كالجدار وفي حلوقكم كقطعة الزجاج، كالصبار وفي عيونكم زوبعة من نار هنا.. على صدوركم، باقون كالجدار..".