سليمان خاطر بعد 33 عاما.. واقع البطولة ينتصر على سردية الجنون
أحمد حسن-القاهرة
بين سرديتي الانتحار والبطولة، تبقى رواية الجندي المصري سليمان خاطر حاضرة في الذكرى الـ33 لوفاته الغامضة.
رحل خاطر مشنوقا في زنزانته بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد 25 عاما، على خلفية قتله سبعة إسرائيليين تجاوزوا الحدود المصرية الإسرائيلية في شرقي شبه جزيرة سيناء.
ففي صبيحة السابع من يناير/كانون الثاني 1986 أعلنت الإذاعة المصرية "انتحار" خاطر داخل زنزانته، في قضية لا يزال يكتنفها الغموض، بين سلطة وصفته بـ "المجنون" وشعب قلَّده أوسمة "الشجاعة والشرف".
بحر البقر-سيناء
ولد سليمان محمد عبد الحميد خاطر عام 1961، في قرية "إكياد البحرية" التابعة لمحافظة الشرقية (دلتا النيل/شمال)، في أسرة بسيطة وكان أصغر إخوته.
في ربيعه التاسع وتحديدا صبيحة الأربعاء 8 أبريل/نيسان 1970، اخترقت آذان الفتى أصوات قصف طائرات الفانتوم الإسرائيلية التي دكت مدرسة "بحر البقر" المجاورة لقريته، في هجوم حول 30 تلميذا إلى أشلاء وأصاب 50 آخرين.
وفي روايتها عن الواقعة، قالت شقيقة سليمان في لقاء تلفزيوني سابق إن "سليمان كان يجري بسرعة عقب سماعه بالحادث، وعاد مذهولا من هول ما رآه، ولم يذق النوم ليلتها".
آنذاك ركض الطفل نحو "بحر البقر" ليحتفظ هناك بمشهد دموي ظل في ذاكرته 15 عاما، حتى أصبح لاحقا الجندي سليمان، صاحب أول الرصاصات المصرية وآخرها في قلب الإسرائيليين منذ توقيع اتفاقية السلام بين بلاده وإسرائيل عام 1979.
الأمن المركزي
كان خاطر متطوعا في قوات الأمن المركزي التي تتبع الشرطة المصرية قبل أن يصبح قائدا للنقطة 46 التابعة لقوات الأمن المركزي في منطقة رأس برقة بسيناء، بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفد مع إسرائيل، التي قضت بانسحاب كل القوات العسكرية وإخلاء المنطقة من الأسلحة الثقيلة والمعدات العسكرية كالدبابات.
قضى الاتفاق بالانسحاب التدريجي للجيش الإسرائيلي من نقاط عدة، على أن تسلم تلك النقاط للشرطة المصرية، شرط أن تمتلك أقل أنواع التسليح والتأمين للمناطق ذاتها، لكن منطقة طابا على خليج العقبة كانت مشكلة حدودية عالقة بين البلدين.
وكعلامة فارقة في التاريخ، كان خاطر أحد أهم الأسباب في تغيير قوانين الالتحاق بقوات الأمن المركزي المصري، باقتصار التجنيد فيه على "الأميين" فقط.
ومع غروب يوم الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 1985، صرخ الجندي الحاصل على شهادة جامعية في القانون (ليسانس الحقوق)، بلكنته المصرية ثلاث مرات "stop.. no passing" (توقفوا ممنوع العبور) من أعلى تبة خلال نوبة حراسته بسيناء، في مجموعة من السياح الإسرائيليين تضم 12 شخصا حاولوا التسلق نحوه.
لم يكترث السائحون الإسرائيليون وقتها وتمادوا في السخرية منه، فأطلق رصاصات في الهواء فلم يتوقفوا، عندها قتل سبعة منهم، وسلم نفسه بعد الواقعة، لتحوله قيادته إلى المحكمة العسكرية بقرار جمهوري من الرئيس المخلوع حسني مبارك، بدلا من القضاء المدني وفق ما ينص عليه الدستور في محاكمة الشرطيين.
المحكمة العسكرية
كانت المجموعة الإسرائيلية، تضم "نساء عاريات وأطفالا ورجلا"، وفق أقوال خاطر في التحقيقات العسكرية التي جرت معه لاحقا.
وفي أقواله أمام المحقق، قال خاطر "أنا رجل واقف في خدمتي وأقوم بواجبي، ولدي أجهزة ومعدات لا يجب أن يراها أحد، والجبل من أصله ممنوع أن يصعد عليه أي شخص سواء مصري أو أجنبي".
وتساءل موجها حديثه للمحقق "أنتم قلتم ممنوع ليه؟ قولوا لنا نسيبهم وإحنا نسيبهم"، ليسأله المحقق "لماذا يا سليمان تصر على تعمير سلاحك؟"، فيرد "لأن الذي يحب سلاحه يحب وطنه والذي يهمل سلاحه يهمل وطنه".
وعندما سأله المحقق "بماذا تبرر حفظك لرقم سلاحك؟" أجاب خاطر "لأني أحبه كما أحب كلمة مصر تماما".
وقبل النطق بالحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، في 28 ديسمبر/كانون الأول 1985، قال خاطر "لا أخشى الموت ولا أرهبه إنه قضاء الله وقدره، لكنني أخشى أن يكون للحكم الذي سوف يصدر ضدي آثار سيئة على زملائي، تصيبهم بالخوف وتقتل فيهم وطنيتهم".
ليعقب بعد الحكم "إن هذا الحكم هو حكم ضد مصر، لأني جندي مصري أدى واجبه".
البطل المجنون
وفي اليوم التالي لصدور الحكم، وصفت الصحف القومية بمصر خاطر بـ"المختل" و"البطل المجنون"، زاعمة أن التقرير النفسي له أثبت أنه "مختل نوعا ما".
لاحقا تم ترحيل خاطر إلى السجن الحربي بمدينة نصر (شرقي القاهرة)، ليكتب في رسالة مسربة ما يفكر فيه "أفكر في مصر أمي، أتصور أنها امرأة طيبة مثل أمي تتعب وتعمل مثلها، وأقولها يا أمي أنا واحد من أبنائك المخلصين، من ترابك ودمي من نيلك".
ومن السجن الحربي جرى ترحيل خاطر إلى مستشفى السجن لمعالجته من البلهارسيا، ليعلن بعدها "انتحار الرقيب سليمان خاطر داخل غرفة السجن مشنوقا ومعلقا من رقبته" بعد تسعة أيام فقط قضاها في السجن.
نفي الأسرة
في شهادته قال شقيقه عبد الحميد خاطر في تصريح صحفي سابق "قبل يوم من وفاة سليمان تفاجأنا بتصريح زيارة للأسرة على غير العادة لرؤيته، وخلال الزيارة طلب منا فرشاة ومعجون أسنان وكتب قانون".
وردا على تقرير الطب الشرعي بأنه "انتحر"، أضاف عبد الحميد لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدى إيمانه وتدينه، إنه لا يمكن أن يكون قد شنق نفسه لقد قتلوه في سجنه.
لتعاود الصحف المصرية الرسمية عناوينها عن الوفاة بـ "انتحار سليمان خاطر.. شنق نفسه على نافذة ترتفع عن الأرض ثلاثة أمتار"، وهو ما شككت فيه الأسرة وطالبت بتشريح الجثة إلا أن طلبها قوبل بالرفض.
وبعد أيام من رحيل سليمان خاطر، قال مبارك عن الواقعة "إنني في غاية الخجل، فقد قام أحد جنودي بفتح النار على مجموعة من الإسرائيليين اخترقوا الحدود، مما أدي إلى قتل سبعة منهم".
انتفضت جامعات ومدارس مصر آنذاك، بهتاف "سليمان خاطر مات مقتول، مات علشان معرفش يخون"، لكن زملاء خاطر في الأمن المركزي نفذوا "الأوامر" وفضوا تلك التظاهرات.
وكما "انتحروه" سابقا، عاقب النظام المصري في مارس/آذار الماضي، في إطار تعامله بـ "حساسية" مع قضية سليمان خاطر، مؤلف ومخرج مسرحية حملت اسمه بالحبس بتهمة "إهانة الجيش"، كما أوقفت وزيرة الثقافة عرض المسرحية لعدم حصولها على ترخيص الرقابة، رغم عرضها قبل عامين بمحافظة الإسكندرية دون اعتراض من أي جهة.