"أمركة" العسكر.. عقدة واشنطن في فنزويلا
مجدي مصطفى
يفتح الانقسام الدولي بشأن أزمة فنزويلا الباب واسعا أمام التصعيد والاستقطاب الخارجي والداخلي، ويأتي الجيش الفنزويلي في الصدارة من محاولات الاستمالة والاستقطاب التي ستزداد حدة كلما طال أمد الأزمة، التي يمثل الجيش كلمة السر ورمانة الميزان فيها.
لكن الولايات المتحدة التي تكثف جهودها للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو، تواجه صعوبة بالغة في إيجاد قيادات عسكرية موالية لها داخل الجيش الفنزويلي يمكن التعويل عليها في تحقيق تلك الغاية.
ومرد هذه الصعوبة أن واشنطن لم تتمكن من "أمركة" النخبة العسكرية في فنزويلا، على عكس ما عليه الحال في كثير من الدول اللاتينية وغيرها حول العالم حيث يسهل على أميركا إيجاد رجال لها بين قيادات جيوش تلك الدول.
وأداة واشنطن الرئيسية لـ"أمركة" الجيوش هي المنح والمساعدات العسكرية التي طوّعت وتطوع بها الجيوش النافذة في الدول الموالية لها، إذ إن قيادات الصف الأول والثاني وحتى الثالث تلقت دورات عسكرية في الولايات المتحدة، وتتخطى المهارات والقدرات العسكرية إلى الولاءات التي تضمنها واشنطن متى احتاجت إليها.
هذه التجربة الأميركية تبدو مختلفة ومنبتة في حالة فنزويلا وجيشها، الذي يحتل الرتبة الـ45 في تصنيف جيوش العالم للعام 2016، فبعد عام 1945 برز التأثير الأميركي على الجيش الفنزويلي، وظلت الولايات المتحدة تزود كراكاس بالمعدات العسكرية الأرضية حتى عام 1970.
لكن الأمر اختلف منذ الثورة البوليفارية عام 1999، حيث جمدت فنزويلا علاقاتها بالولايات المتحدة والغرب، لتصبح روسيا الممول الرئيسي لفنزويلا بالأسلحة الثقيلة والمركبات المدرعة والطائرات المقاتلة، كما تزودها الصين بطائرات التدريب ورادارات المراقبة.
وتستند العقيدة العسكرية للقوات المسلحة الفنزويلية إلى السياسة التي وضعها الرئيس الراحل هوغو شافيز الذي قدم إلى الحكم من صفوف الجيش، حيث قال "إن واجب الجيش الوطني أن يكون وطنيا، وشعبيا، ومعاديا للإمبريالية".
وبقدر السهولة التي تجدها واشنطن مع جيوش الدول التي تدور في فلكها، بقدر الصعوبة التي تجدها في حالة دولة مثل فنزويلا، حيث يشعر الرئيس مادورو أنه امتص صدمة المحاولة الانقلابية التي تباركها واشنطن وترعاها وتسوّق لها منذ يوم الأربعاء الماضي، خصوصا وأن موقف الجيش الفنزويلي جاء واضحا وحاسما في رفضه تلك المحاولة وتأكيد وقوفه إلى جانب مادورو.
هذه الحالة تفسر مسارعة واشنطن للترحيب أمس بإعلان الملحق العسكري الفنزويلي لديها العقيد خوسي سيلفا انشقاقه عن الرئيس مادورو، واعتبارها هذا الانشقاق "نموذجا لدور الجيش" الفنزويلي الذي تتمناه، وحث المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جاريت ماركي العقيد سيلفا على تشجيع باقي أفراد الجيش الفنزويلي على التخلي عن ولائهم لنظام مادورو.
منشورات غوايدو
وبعد إعلان سيلفا انشقاقه من واشنطن، لجأ رئيس الجمعية الوطنية (البرلمان) خوان غوايدو، الذي أعلن نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد، إلى توزيع منشورات على الجنود الفنزويليين تتضمن بالتفصيل "قانون العفو" المقترح الذي يحميهم للمساعدة على الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو.
وقدم أنصار غوايدو قضيتهم مباشرة إلى الجنود، ووزعوا عليهم منشورات تحث على رفضهم الزعيم الاشتراكي، وتشرح لهم كيف يمكن أن يكونوا مؤهلين للحصول على العفو إذا تخلوا عن مادورو وساعدوا في "إعادة فنزويلا إلى الديمقراطية".
وفي حي بارايسو بالعاصمة كراكاس، سار النائب المعارض إيفولف سيلفا الذي رفع يديه فوق رأسه نحو مجموعة من الجنود يرتدون ملابس قوات مكافحة الشغب ويحملون الدروع قائلا "يؤمن شعب فنزويلا بكل واحد منكم".
وحدثت مشاهد مماثلة في قواعد عسكرية في كراكاس، حيث أحرق جندي منشورا له، وألقى رجل آخر كومة منها خارج الباب رافضا نداء المعارضة.
في المقابل حرص مادورو على إظهار قوته مرتديا زيا عسكريا ومحاطا بكبار ضباط الجيش خلال عرض عسكري شوهدت فيه المدفعية الثقيلة تطلق نيرها على أحد التلال.
وفي كلمته أمام الحدث العسكري الذي نقله الجيش الفنزويلي، سأل مادورو الجنود عما إذا كانوا يتآمرون مع الولايات المتحدة "الإمبريالية" التي اتهمها بقيادة انقلاب علني ضده، فأجابوا بأعلى أصواتهم وبنفس واحد "لا يا قائدنا الأعلى"، فقال مادورو "نحن مستعدون للدفاع عن وطننا تحت أي ظرف".
وشاهد مادورو وبجواره وزير الدفاع فلاديمير بادرينو في قاعدة باراماكاي العسكرية مجموعة من الجنود تطلق دفعات من القذائف الصاروخية ونيران المدافع المضادة للطائرات وقذائف الدبابات على أهداف على جانب أحد التلال، مما أدى إلى تصاعد سحب من الغبار في القاعدة.
وقال مادورو إن العرض يظهر للعالم أنه يحظى بدعم الجيش، وإن القوات المسلحة الفنزويلية مستعدة للدفاع عن البلاد. وأضاف بعد انقشاع الغبار عن القاعدة "لا أحد يحترم الضعفاء أو الجبناء أو الخونة. ما يحترم في هذا العالم هو الشجاعة والقوة".
وتابع "لا ينبغي لأحد أن يفكر حتى في أن يطأ هذه الأرض المقدسة. فنزويلا تريد السلام.. ولتحقيق السلام علينا أن نكون مستعدين".
ومن المقرر أن يجري الجيش تدريبات عسكرية أوسع نطاقا خلال الفترة من 10 إلى 15 فبراير/شباط القادم. ووصف مادورو التدريبات بأنها "الأهم في تاريخ فنزويلا".
وندد مادورو بما سماها مؤامرة تهدف إلى نشر التمرد في الجيش، قائلا إن آلاف الرسائل ترسل يوميا إلى الجنود عبر تطبيق واتساب ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى من كولومبيا المجاورة. وشوهد مادورو في وقت لاحق وهو يهرول مع الجنود، وزار قاعدة بحرية.
وما بين محاولات الاستقطاب التي يتعرض لها جنود الجيش من قبل غوايدو ومن ورائه الولايات المتحدة من جهة، ومحاولات إظهار القوة من قبل مادورو من جهة ثانية، تظل الأزمة الفنزويلية مفتوحة على التصعيد وعلى سيناريوهات متفاوتة، أسوأها نشوب حرب أهلية يتورط فيها الجيش.