الشباب في القدس منذ أوسلو
تعمل دولة الاحتلال الإسرائيلي ومنذ سيطرتها على مدينة القدس على تغيير واقعها السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي بهدف السيطرة الإسرائيلية الكاملة عليها. عوامل ضاغطة خلقتها السياسات العنصرية الواضحة متشكلة في حواجز على الأرض وحواجز اقتصادية وثقافية لا تقل ضراوة عن تلك المصنوعة من الإسمنت المسلح.
القمع الممنهج وسحب الإقامات وهدم المنازل والاعتقالات والتصفية الجسدية والسيطرة على المدارس العربية والمؤسسات التربوية الخاصة، وغيرها من الإجراءات القمعية التي تهدف كلها إلى تغيير هوية المدينة والى إضعاف المناعة النفسية للمواطن المقدسي ووضعه في خانة يعيش فيها فقط منكباً على السعي وراء إيجاد الوسائل الأساسية لضمان بقائه في هذه المدينة لا أكثر.
رسمت اتفاقية أوسلو الحدود المكانية بين المقدسيين وباقي السكان الفلسطينيين، وعزلت مساحات المدينة عن امتدادها الفلسطيني الطبيعي، وبالتالي خلقت حالة من الانعزال والاغتراب وضعف الإحساس بالانتماء للكل الفلسطيني.
تفاقم أعداد المقدسيين الذين بدؤوا فقدان الأمل من الخلاص الوطني الجماعي واستخدام إستراتيجية الخلاص الفردي |
أدى ضعف قدرة السلطة الفلسطينية على العمل بالقدس، ومساعدة سكانها على الصمود، إلى تفاقم المعاناة وشعور المقدسيين بالامتهان وتركهم وحدهم في مواجهة الغلو الإسرائيلي دون مساعدة من أحد، الأمر الذي قد يفسر تفاقم أعداد المقدسيين الذين بدؤوا فقدان الأمل من الخلاص الوطني الجماعي، واستخدام إستراتيجية الخلاص الفردي كإستراتيجية أساسية للتكيف مع الضغوطات الحياتية وشعورهم بالعزلة.
الخصائص السكانية
حسب معطيات دائرة الإحصائيات الإسرائيلية لعام 2018، فإن عدد السكان في القدس بلغ 882.600 نسمة نهاية العام 2016، بينهم 550.100 أي 62.3% يهود، و 332.400 عربي فلسطيني ويشكلون نسبة 37.7%.
يعتبر المجتمع الفلسطيني مجتمع فتيا حيث إن الأعمار من (14-0) يشكلون 38% من السكان، والأعمار من (24-0) يشكلون 58% من السكان، والأعمار من (24-15) يشكلون 20%، بينما يشكل 4% الأشخاصُ الذين أعمارهم فوق 65 عاما.
دراسة توجهات الشباب في ظل الواقع السياسي والاجتماعي الراهن، ونظرا لكونهم النسبة الأعلى من السكان في المجتمع الفلسطيني في القدس، تعطي مؤشرا أساسياً لفهم ردة الفعل المجتمعية على هذا الواقع وطريقة تماهيه أو صموده في وجه تحدياته.
ففي الوقت الذي نجد فيه شبابا استطاعت كل تلك العوامل الضاغطة النيل من طموحاتهم وإضعاف قدرتهم على التكيف السليم، نرى أن هناك شبابا آخرين لا يزالون يشاركون في الحراكات الشبابية والفعاليات الوطنية والثقافية وينخرطون في الدراسة والعمل، وهناك آخرون يبدعون فيما يقومون به محافظين على هويتهم الثقافية والسياسية.
والسؤال هنا: ما الذي يجعل هؤلاء الشباب بالرغم من الضغوطات الحياتية الصعبة والممارسات الهادفة لإضعاف المناعة النفسية أن يحافظوا على مستوى من التكيف السليم والصحي؟ وما هو دور المجتمع ومؤسساته في توفير الدعم الاجتماعي للشباب كمصدر أساسي ظهرت أهميته في الكثير من الدراسات في رفع مستوى قدرة الفرد على التصدي والصمود؟
بعد اتفاقية أوسلو تم عزل القدس تماما عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وانتقل الثقل تدريجيا إلى عاصمة بديلة |
واقع الشباب المقدسي
أ. خلفية عامة:
تأثر واقع الشباب الفلسطيني في القدس بمراحل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت الفترة المشرقة في مدينة القدس في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، عندما شكلت القدس مركزا سياسيا وثقافيا ونقابيا واقتصاديا وجماهيريا فازدهر فيها العمل الوطني والخيري والجماهيري.
ولكن بعد اتفاقية أوسلو عزلت القدس تماما عن الضفة وقطاع غزة، وانتقل الثقل تدريجيا إلى "عاصمة بديلة" للسلطة الفلسطينية في رام الله، وانتقل معها عدد من المؤسسات الفلسطينية المدنية والحقوقية التي كانت تعمل في القدس طوعاً.
مع الانتفاضة الثانية العام 2000 ومع تغيير سياسات إسرائيل تجاه القدس بشطريها مطلع القرن الحالي والهجوم الإسرائيلي على مقرات السلطة الفلسطينية ووفاة فيصل الحسيني المفاجئ وإغلاق مقر بيت الشرق، بزغ واقع جديد متحديا قطاعات العمل الأهلي في القدس بما فيها قطاع الشباب، وقد انعكس ذلك في مجموعة من الأزمات والتحديات أمام الشباب:
1. الشعور بالغربة وتشويش الهوية: أدت سياسة عزل القدس نتيجة اتفاق أوسلو عام 1992 إلى فصل كامل لمدينة القدس عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وتشديد سياسة إسرائيل الرامية لإلحاق الفلسطينيين بالقانون الإسرائيلي، وتهويد المدينة بشكل مستمر لإحداث تغيير ديمغرافي لصالح المستوطنين اليهود.
هذه التغييرات الدراماتيكية في القدس أدت إلى تشويش في الهوية والشعور بالانتماء لدى الشباب خاصة، وإلى شعور متزايد لديهم بالغربة السياسية واللامبالاة والعزوف عن العمل الجماهيري الوطني والحزبي.
ازداد الضغط على المقدسيين والشباب بالذات بعيد هبة القدس والتي تخللتها عمليات الاغتيال |
2. ضائقة اجتماعية واقتصادية: نتج عن سياسات إسرائيل العنصرية والهادفة إلى التقليل من نسبة السكان الفلسطينيين في القدس (من 28% إلى 18% حتى عام 2025) -من خلال تحديد عدد رخص البناء وإمكانيات التوسع العمراني، وهدم المنازل غير المرخصة، وسحب حق الإقامة، والتشديد في قضايا لم الشمل- إلى نزوح آلاف المقدسيين إلى خارج حدود بلدية الاحتلال والسكن في منازل بدون ترخيص ومن دون خدمات تذكر، وقبول العيش في ظروف غير آدمية بغية الاحتفاظ بحق الدخول إلى المدينة والعمل فيها.
نتج عن هذا الواقع الاجتماعي معاناة اقتصادية كبيرة ظهرت بنسبة بطالة بين الشباب المقدسي وصلت إلى 40% ونسبة فقر تجاوزت 79% من العائلات الفلسطينية ومعاناة 86% من الأطفال والشباب وعدم توفر فرص للعمل (الكتاب الإحصائي السنوي، القدس، 2016، ص 241).
3. الشعور بعدم الأمان: ازداد الضغط على المقدسيين والشباب بالذات بعيد هبة القدس والتي تخللها عمليات الاغتيال، وهدم المساكن وإغلاق الأحياء، والاعتقالات الجماعية للشباب والأطفال والعقاب الجماعي وسحب الإقامة وسياسة فرض واقع جديد في المسجد الأقصى لصالح السيطرة الإسرائيلية على المكان، وغيرها من سياسات التهويد والأسرلة الواضحة.
ب. أسرلة واحتواء التعليم الفلسطيني:
منذ عام 2011 تعمل الحكومة الإسرائيلية من خلال وزارة التعليم ودائرة المعارف في بلدية القدس على أسرلة التعليم من خلال إدخال المنهاج الإسرائيلي وفرض الرواية الإسرائيلية على الطلبة الفلسطينيين بهدف تغييب الوعي والثقافة الجمعية للشعب الفلسطيني، وفي هذا السياق قررت الحكومة الإسرائيلية بتاريخ 13/5/2018 تخصيص مبلغ 429.1 مليون شيكل (114 مليون دولار أميركي) لتنفيذ خطة حكومية "للانتقال من المنهاج الفلسطيني إلى المنهاج الإسرائيلي" (صحيفة هآرتس العبرية 13/5/2018).
أدت الإجراءات الإسرائيلية في التعليم إلى زيادة نسبة التسرب في المدارس خاصة في الصفوف التاسع والعاشر بنسبة تصل في المدارس الخاصة ومدارس بلدية الاحتلال إلى 27% للعام الدراسي الحالي 2017-2018، وبالتالي زيادة نسبة العاطلين عن العمل بين الشباب والذين يتوجه بعضهم للسوق الإسرائيلية للعمل في المهن الرخيصة والتي لا تكسبهم مهارات مهنية للمستقبل.
ج. آفة المخدرات:
– خلال السنوات العشر الأخيرة حصل تطور نوعي وكمي في تعاطي المخدرات بالقدس، فمن جهة انخفض عمر الشباب الذين يتعاطون المخدرات إلى ما بين 13 و 15 عاما بالإضافة إلى توفر مخدرات رخيصة في الأسواق يتم استهداف الأطفال والشباب فيها.
– العام الماضي أصدر المعهد الوطني للصحة العامة ومكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة نتائج دراسة نفذت في فلسطين حيث أشارت إلى أن 1.4% من الذكور الذين أعمارهم فوق 15 عاما يتعاطون مخدرات خطيرة (المعهد الوطني للصحة العامة ومكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، 2017).
عملت المؤسسات الشبابية المختلفة على تقديم خدمات اجتماعية واقتصادية وثقافية |
د. تعزيز الشعور بالانسجام العام:
وجد المجتمع المقدسي ومؤسساته نفسه في خضم هذا الصراع تارة متضررا من السياسات الاحتلالية وتارة مصدرا يساعد المقدسيين على الصمود تجاه السياسات القمعية، وذلك من خلال التزامه أخلاقيا ووطنيا بالاستمرار بالعمل مع الشباب في ظروف عمل صعبة ضمن رؤية تم الاتفاق عليها "مساعدة السكان على الصمود والثبات من خلال تعزيز الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والحياتية للفلسطينيين في القدس" (الخطة الإستراتيجية للتنمية القطاعية في القدس الشرقية، 2010).
وبالتالي فقد عملت المؤسسات الشبابية المختلفة على تقديم خدمات اجتماعية واقتصادية وثقافية…إلخ ضمن مسارات رئيسية متعددة:
أولا: المسار الثقافي والترفيهي والأنشطة اللامنهجية: تعتبر هذه الإستراتيجية مركزية تمرر من خلالها المؤسسات مجموعة من الرسائل وخاصة المتعلقة بالهوية الوطنية والثقافية والتاريخ الفلسطيني في محاولة للحفاظ على الهوية الوطنية الجامعة وللتغلب على تأثيرات الانغلاق والانزواء والتشتت بفعل عزلة الاحتلال وتراجع الهوية الوطنية المقاومة وانهيار دول الإقليم المحيطة بفلسطين، وكرد فعل على محاولات طمس وتغييب الهوية الوطنية بالمناهج التعليمية من قبل سلطة الاحتلال في القدس.
كل هذه البرامج والأنشطة تخفف من وطأة المعاناة التي يعيشها المقدسيون، فهي ليست مجرد قدر سماوي لا تفسير له وإنما هي معاناة شعب محتل يحاول الحفاظ على هويته وعلى حقوقه الشرعية، إذ إن ما يتعرض له من إهانة إنما هو دافع له لخلق أطر تساعده في التصدي لهذه الإهانة من خلال الحفاظ على موروثه الثقافي وحقوقه السياسية، وإن هذا الصمود له معنى كبير صحيا ونفسيا.
ثانيا: التدخلات الاجتماعية الاقتصادية: لوضع حد للتآكل في المستوى المعيشي والاقتصادي، وعوامل الطرد إلى خارج مركز القدس للسكن، عملت المؤسسات الشبابية المقدسية بشكل مكثف على تطوير برامج اقتصادية اجتماعية تناولت التدريب المهني والتشغيل والمشاريع الصغيرة، ودعم المبادرات الريادية الشبابية، والتمكين والتطوير في مجالات اقتصادية واجتماعية، ومكافحة المخدرات.
ولامست هذه المؤسسات أيضا مشكلة لم شمل العائلات، وهي قضية تؤرق العديد من العائلات في القدس والتي لا يمتلك أحد أفرادها بطاقة الهوية التي تصدرها بلدية الاحتلال، وبالتالي تحتاج هذه العائلات لخوض نضال قانوني طويل ومتعب للم شملها وفقاً لقوانين الاحتلال بالإضافة إلى قضايا الفقر والبطالة بين صفوف الشباب.
من المهم جدا الإشارة إلى التدخلات النفسية التي تقوم بعض المؤسسات في القدس، وخاصة في الظروف الطارئة |
ثالثا: بناء القدرات وتعزيز الثقة بالنفس والتواصل مع الفلسطينيين في شتى أنحاء الوطن: من أهم الأدوار التي تقوم بها المؤسسات الشبابية مساعدة الشباب في تطوير إمكانياتهم ومهاراتهم وفهم ذاتهم من خلال تدخلات متواصلة في مجال القيادة، والعمل الجماعي، وتطوير الذات وحل المشاكل والمساهمة في انخراطهم ومشاركتهم المجتمع من خلال العمل التطوعي والحملات الشعبية والعمل الاجتماعي.
من المهم جدا هنا الإشارة إلى التدخلات النفسية التي تقوم بعض المؤسسات في القدس، وخاصة في الظروف الطارئة، حيث تقوم وبشكل فعال وسريع بتطوير خطط طوارئ للتدخل النفسي مع أهالي الشهداء والأسرى بهدف تطوير قيم اجتماعية ووطنية لدى الشباب من خلال المشاركة المجتمعية والعمل التطوعي والمبادرات المختلفة.
رابعا: المسار السياسي: أي ما تقوم به المؤسسات في كثير من الأحيان كبديل للجسم السياسي في القدس وذلك من خلال التصدي لإجراءات الاحتلال الإسرائيلي في فرض واقع جديد من خلال محاولات تغيير المنهاج الفلسطيني وتقييد العمل الأهلي الفلسطيني في القدس ومن الأحداث السياسية (التهجير، التطبيع، ملف الأسرى) وغيره، وهذا المسار يعزز شعور الفرد بوجود جهة وطنية محلية تسانده.
ختاما:
لا شك أن للمؤسسات المجتمعية والشبابية دورا هاما في تعزيز الشعور بالانسجام العام من خلال تعريف الشباب بواقع الحال والعيش تحت الاحتلال، والمعنى الصحي والمهم لصمودهم ومواجهتهم الضغوطات اليومية التي يواجهونها، ومن خلال إعطائهم الأدوات للمشاركة والفرص لرفع شعورهم بالقدرة والسيطرة على حياتهم بالرغم من كل الظروف الصعبة التي يعيشونها.
لربما تساعدنا نظرية الانسجام العام sense of coherence، والتوجه السلوتوجيني، على تحديد أهداف عمل المؤسسات الشبابية الرامية إلى إيجاد مصادر تساعد الفرد على التكيف بشكل صحي بالرغم من الضغوطات الحياتية التي يواجهها.