دير شبيغل اعتذرت.. ماذا عن أكاذيب الإعلام العربي؟

أحمد دعدوش-الجزيرة نت
صحفي ألماني شاب صاعد، اعتاد الفوز بجوائز كبرى من خلال فبركة الأخبار والتقارير، فتشجع أخيرا للاحتيال ماليا على القراء، مفجرا بهذه الفضيحة جدلا مقلقا حول اهتزاز ثقة الناس بالإعلام، ومعيدا إلى ذاكرتنا القريبة سجلا حافلا بأكاذيب الإعلام الرسمي العربي.
بدأت الفضيحة -التي أخذت بعدا عالميا- قبل أسبوع، عندما اضطرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية العريقة للاعتراف بأن الصحفي الذي يعمل لديها كلاس ريلوتيوس (33 عاما) لفق قصصا من خياله في 14 موضوعا من بين ستين موضوعا نشرها في المجلة خلال السنوات السبع الأخيرة.
ورغم أن أحد زملائه حاول تنبيه مسؤولي المجلة طيلة أسابيع إلى الحقيقة، فإن أحدا لم يصدقه. ولعل هذه "الغفلة" شجعت ريلوتيوس على المضي قدما في مسلسل الكذب ليصل إلى الاحتيال، حيث لفق جزئيا قصة بشأن يتيمين سوريين ادعى لقاءهما بتركيا، ودعا القراء عبر بريده الإلكتروني الشخصي إلى التبرع لهما، ليتبين لاحقا نهبه لتلك التبرعات.
خصصت دير شبيغل صفحتها الأولى السبت للاعتذار، وعنونت الغلاف بشعارها الذي أطلقته عند تأسيسها عام 1947 "انقل المعلومة كما هي"، وأقرت بأن الفضيحة تعد من "أسوأ الأمور التي يمكن أن تحدث لفريق تحرير صحفي"، متعهدة بـ"القيام بكل شيء" لتعزيز مصداقيتها مجددا، ثم أعلنت الأحد أنها سترفع دعوى قضائية ضد ريلوتيوس وستعطي كل المعلومات للنيابة العامة.
ربما تنجح المجلة العريقة في استرضاء قرائها، لكن الفضيحة أعادت طيلة هذا الأسبوع الجدل عالميا حول فبركة الأخبار، لا سيما مع وجود رئيس في البيت الأبيض يردد منذ أكثر من عام مصطلح "أخبار مزيفة"، وهو يندد بشكل غير مسبوق بإعلام بلاده الذي يعد الأكثر انتشارا في العالم.

الأكاذيب والكراهية
وفي مقال كتبه محرر صحيفة واشنطن بوست تشارلز لين أمس، استرجع العديد من الأمثلة الصادمة لفضيحة ريلوتيوس، وقال إنه كان يظن أن هذه الفضائح التي تكررت كثيرا في القرن الماضي ستتوقف عند حاجز التسعينيات، وإن إمكانية التحقق من صحة المعلومات عبر انتشار الإنترنت في كل مكان ستردع محاولات الاحتيال، ليقر أخيرا بأن أمله كان "ساذجا".
ولفت الكاتب النظر إلى أن أكاذيب ريلوتيوس كانت في كثير من الأحيان تصب في خانة الكراهية والتشويه، متسائلا لماذا لم يكتب أكاذيب عن البرنامج الناجح لإعادة تأهيل السجون في الولايات المتحدة بدلا من فبركته قصصا عن العنصرية الأميركية، وهو أمر أثار أيضا غضب السفير الأميركي لدى ألمانيا ريتشارد غرينيل.
هذا التحيز يشير كما يبدو إلى أن المفبركين يميلون في العادة إلى اختلاق الأكاذيب التي تصب في صالح العنصرية والكراهية بدلا من العكس، فهي الأكثر انتشارا وجاذبية.
في مارس/آذار الماضي، نشرت مجلة "ساينس" العلمية تفاصيل دراسة قام بها باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وتناولت أكثر من 126 ألف خبر تم تداوله على تويتر خلال عشر سنوات، حيث تبين أن الأخبار الكاذبة تحظى بفرصة الانتشار بنسبة 70% أكثر من مثيلتها الحقيقية.
وقال الباحثون إن الأخبار الصحيحة تستغرق مدة أطول بست مرات للوصول إلى الجمهور قياسا بالكاذبة، ولفتوا إلى أن الناس يشاركون القصص بناء على معيار "الطرافة" أكثر من توقفهم عند معيار الواقعية، مما يمنح القصص الكاذبة والشائعات فرصا أكبر بكثير للانتشار.

أكاذيب عربية
أثارت فضيحة ريلوتيوس شهية العديد من وسائل الإعلام العربية الرسمية للتنديد بالإعلام الغربي، وكأنها وجدت بذلك فرصة للتغطية على "احتراف" الفبركة الذي تمارسه لصالح الأنظمة.
فعلى سبيل المثال، كتبت صحيفة "الثورة" التابعة للنظام السوري مقالا افتتاحيا الجمعة تحت عنوان "الإعلام الغربي يسقط في مستنقع الأكاذيب"، واحتفت في نشوة بالغة بفبركة ريلوتيوس بعض التفاصيل عن قصة اليتيمين السوريين، لتجد في ذلك دليلا على "مدى زيف آلات الإعلام الغربية وتحديدا الألمانية ونفاقها وقلبها للحقائق حيال تعاطيها مع الأزمة في سوريا".
وتكمن المفارقة في أن إعلام النظام السوري احترف الكذب طوال فترة الأزمة السورية التي تمتد على مدى عمل ريلوتيوس في دير شبيغل، وإلى درجة قد تتجاوز ما أبدعه وزير الدعاية الألماني النازي يوزف غوبلز صاحب المقولة المشهورة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب، حتى يصدقك الناس".
فحتى عندما كان جيش النظام يقصف المدن والقرى بالأسلحة المحرمة دوليا، ويستهدف المدارس والمخابز والمستشفيات تحديدا في وضح النهار، فإن أجهزته الإعلامية لم تجد غضاضة في إنكار هذه الحقائق، فضلا عن نسبة بعضها إلى المعارضة نفسها.
والأمر نفسه يتكرر بشكل صارخ -قد يعجز المتأمل عن تصديقه- في معظم دول المنطقة، فمجزرة رابعة التي تم توثيقها بالبث المباشر وكاميرات الناشطين صيف 2013 أعاد إعلام النظام المصري روايتها بطريقة مغايرة، والتغطية المباشرة لأحداث محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا صيف 2016 تم تقديمها في فضائيات مصرية وإماراتية وسورية على أنها ليلة سقوط الرئيس رجب طيب أردوغان، وهو ما ثبت زيفه خلال ساعات.
أما الأزمة الخليجية المتواصلة منذ عام ونصف فقد قدمت لدارسي الإعلام ومؤرخيه أرشيفا ضخما من الأكاذيب التي تتجاوز بفداحتها حدود الخيال، إذ بدأت بقرصنة موقع وحسابات وكالة الأنباء القطرية في 23 مايو/أيار 2017 وإطلاق تصريحات مفبركة نسبت إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
ورغم النفي الرسمي لتلك التصريحات -المفتقرة في صياغتها للإقناع- فقد اتُّخذت ذريعة من قبل أربع دول عربية لفرض حصار على قطر، ثم انطلقت سلسلة يصعب حصرها من الفبركات المتواصلة في الإعلام الرسمي لتلك الدول.