حين تهمس المدينة العتيقة..

قصائد القدس لا تخُطّها يد معوجّة لا تعرف كيف تشير للسماء، لا تسكبها دمعاً يدُ الظُلّام على وجنات العز إنْ سكتَ النداء، هي الأيام دول! قد يسكن الأراذل حيث سكن الشرفاء! وقد يرتوي الفجّار من نبعٍ روى من قبلُ الأنبياء! غير أنّ الحق رغم رعونة الريح ثابتةٌ في الصخر أوتادُه، جبالا حملت على رؤوسها نارا تحرق الزبد فيذهب جُفاء.. هي القدس ملاذك الأخير وقد امتد الطوفان حتى وسادتك! فهل تتوقف عن الشخير يا مَن تحمل ملامح موتك في يقظتك!
هي القدس تناديك من وراء قضبانها، فاشهد على نفسك إن لم تلبّ النداء؛ بخذلانها، واحفر لنفسك قبرا بعيدا عن أسوارها، فبركتها ليست لك، ولا لمثلك كُتبت أشعارها!
نتغزّل بإشراق الشمس من ثغرها، نَصِفها، ونصوّرها، نتحدّث عنها، ونوغل في عشقها، بينما يواصل عدوّنا تقطيع أوصالها، يركض صوب تهويدها، وبالأمس حذِراً كان يسير! |
كثرت مواجعنا، فجاء مَن يقنعنا بأننا إن اجتهدنا في وصْف الألم توقّف! وإنْ كتبنا على صفحات التواصل وصْفاتِ الدواء رحل الداء! صرنا نصفّق لبعضنا، وامتلأ بالتصفيق سمعنا، فما عادت صرخات الأقصى تصلنا، وصرنا مشغولين عن القدس بها، نتغزّل بإشراق الشمس من ثغرها.. نصِفها، ونصوّرها، نتحدّث عنها، ونوغل في عشقها، بينما يواصل عدوّنا تقطيع أوصالها، يركض صوب تهويدها، وبالأمس حذِراً كان يسير!
يهدم بيوتها المقدسية بسرعة مَن يعمل في دقائقه الأخيرة، يحفر الأنفاق ويرسم الجسور، ويرفع الأسوار ليحجز خلفها النهار، ويترك قدسنا فريسة للعتمة والعزلة!
عدوّنا يأسر مرابطينا بهجمة شرسة (ضد تاريخ مدينتنا) ليلقي بهم بعيدا عن حضن المسجد الأسير، يعتدي على المتظاهرين والمسعفين، يلاحق الكلمات على الصفحات وبين الشفاه، وحين تطلّ من غضب الأعين الصامتة! يأسر الصحافة، ويفقأ عين الكاميرا، ويُخرس الأصوات التي تنادي بعروبة مدينة الأنبياء، ليُحكم سيطرته عليها بمخطّطات أمنية جديدة، يقيم مِن خلالها مراكز أمنية لا سقف لوحشيتها، ينشرها في الأحياء الفلسطينيّة المقدسيّة وقد تمت زراعتها بكاميرات الرصد والمراقبة، بل ويحشد هذا العدوُّالآثم التأييد لمشروع قرار ضم مغتصبات الضفة والقدس، ليستثمر الصلف الأميركي، ويغذّي به غروره!
هو يواصل جهوده برسم ملامح جديدة لقدسنا، يبدّد بآلياته ملامحها العتيقة، ليغيّر هويّتها، ويشوّه سلام عينيها وهي تشاهده يسدد لبيوتها الكهلة الطعنات.. هي لم تعتد على غرابة لغتهِ حين يحاورها، فتُلقي على كتف المرابطين برأسها، وتهمس كما لم تهمس مدينة من قبل (لن يفلح العابرون! لن يفقد الزيتون خضرته، لن يبدّل حجرٌ في أسواري لغته، ولن تتوقف حمائمي عن الهديل بالتكبير والترتيل.. خطوات العابرين أتعبتني، وعبَرات الصابرين أرهقتني، غير أني أشاهد الفجر مِن مكاني.. تتفجّر به عروق المصلّين!)
في معارك التحرير يكون القلم رفيقا للبندقية ولايكون بديلا عنها، وعلى الشوارع أن تقول كلمتها لدعم البندقيّة الفلسطينيّة، وإلا سيأتي يوم تنطق فيه الجلود وتفصح عمّا أخفته السرائر |
الكيان الإسرائيلي بجيشه، وأمنه، واستخباراته، ومؤسساته، وجنود مواقعه للتواصل يعملون لذبح القدس واستبدال الشمعدان بطهر قناديلها، فماذا فعلنا غير التغريد والتنديد بالحبر والغناء! بينما تشتعل في الشوارع المباركة بلا صوتٍ ثورة الدماء!
الحرب الثقافية واحدة مِن ملامح الصراع، ولا تختزله! وإعداد الأمة لمعركة التحرير لا يتمّ بالانصراف لإعداد المناهج وحسب، بل بالقدرة على استثمارها، ففي معارك التحرير يكون القلم رفيقا للبندقية ولايكون بديلا عنها، وعلى الشوارع أن تقول كلمتها لدعم البندقيّة الفلسطينيّة، وإلا سيأتي يوم تنطق فيه الجلود وتفصح عمّا أخفته السرائر، فلا تسمحوا لهمّتكم بالفتور، فغفلتكم تعني مُضي عدوّكم في غيّه فوق ترابكم، وعلى جلودكم وأنقاض مسجدكم!
وأما الجيوش التي تعذّبت بالضجر، واحتفظت بذخيرتها حتى الصدأ، فأدعوكم لتريحوها! فما عادت تخيف أحدا! وما جعجعة السلاح بيدها إلا اهتزاز وطرب.
تلكم القدس رغما عن ذلّ مَن باع طهرها! ترتدي في القيد عباءة عزّها، لا تنتظر منكم مددا، وبأيديكم الطليقة امسحوا الغبار عن أحذية الغزاة، فما رأينا منكم حتى اليوم رشدا!
ولنا في القدس لقاء.