القدس والمارد وفيروز

الجيل الجديد؛ لم يكن ينام ويصحو على صوت فيروز وهي تتداخل مع أرواح العرب الذين يقاومون نعاس التاريخ: مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة، لأن غالبية الجيلين السابقين لهم مِن مَن مرّ من شوارع القدس وحدثهم بدموع فيّاضة عن تلك الشوارع ورهبتها وهيبتها؛ ولهم ذاك الحنين الذي يحفّزهم للخشوع كلّما مرّ ذكر القدس.
أما هذا الجيل، فإنه يتسلم راية المحاولة للحفاظ على القدس، ويحاول ألا يستسلم رغم تزايد حدّة جوعه وانغماسه المبرمج له لكي يلهث خلف متطلباته الشخصية فقط، التي كلّما حاول الظفر بها ردّوه إلى متطلب شخصي جديد يشعرونه بأهميته القصوى له.
هذا الجيل المبني تماماً على وجع الخبز ووجع الكرامة يدرك -بعد حداثة الربيع العربي- أنه لا يمكن له أن ينصاع، لذا فإنه يجنح إلى فضائه الافتراضي |
هذا الجيل، المبني تماماً على وجع الخبز ووجع الكرامة، والمشحوط من ياقته لكي يدخل لعبة الانصياع؛ يدرك -بعد "حداثة" الربيع العربي- أنه لا يمكن له أن ينصاع، لذا فإنه يجنح إلى فضائه الافتراضي ويفضفض هناك فضفضة شخصية ليكتشف بعد أقل من ساعة أن فضفضته ما هي إلا ثورة في العلن من محيطها إلى خليجها، وأن الذين يشبهون حكايته هم ملايين العرب، وأنه ليس وحيداً ولا غريباً وسط الجموع الثائرة؛ لذا يبكون صبابةً الشهيد "إبراهيم أبو ثريا"، ويتخذونه رمزاً ومحفزّاً لأي مشروع ثوري حالي أو قادم، فهم قادرون بقدمين ثابتتين أن يفعلوا مثله إن جاءت اللحظة الفارقة، كما أنهم يرمون خلف ظهورهم كل التقولات والتخرصات التي تنال من طفلة مثل "عهد التميمي"، التي صارت صبية أمام متابعتهم لمسلسلها الثوري منذ سنوات، فتراهم يشعرون بالعجز أمام طلتها البهيّة، ولكنّ عجزهم يستبدلونه بالفخر والمباهاة بها .
الجيل الجديد يخبّئ الآن حكايته، وينسجها على أقلّ من مهله، وينشئ بحاراً وسفناً وقوارب، ويصنع سمكه بعيداً عن أعين المخابرات العربية، وبعيداً عن عباءات العشيرة، وبعيداً عن مخاتير القرى الذين لم يبقَ من هيباتهم إلا هيبة الموت المكشوف.
هذا الجيل أخرج القدس العتيقة من صناديق فيروز، وأخرج معها لسانه الفصيح، وصار يغربل على الملأ كلّ من هو مع فلسطين (قلباً ورباً) ومن هو مع رُبع فلسطين (خوفاً ورعباً)، ومن هو مع (الأميركان)، لأنه لا يعرف النوم إلا إذا كرّر قبل النوم ألف مرة: 99 من أوراق اللعبة بيد أميركا! هذا الجيل لا يمكن إلاّ أن ينسجم مع تاريخه وعطايا تاريخه وانزياحات تاريخه، التي حوّلته في لحظات مظلمة إلى تابع لا ينتظر من الشمس إلا موعد اللهاث ولا ينتظر من القمر إلا موعد النوم!
فلسطين حكاية جيل جديد في شعوب عربية تعيش الألم نفسه واللهاث نفسه والقمع نفسه وسرقة الأحلام في وضح النهار |
كل ما سبق؛ أسوقه لكي أصل إلى نتيجة أراها حتمية حين النظر إلى تفاصيل ما حدث ومن قراءة متأنية لمتشابهات سابقة؛ النتيجة تقول إن الأجيال التي كانت تنتظر مصباح علاء الدين وتنتظر لكي تتسابق على فركه ليخرج لها المارد وحكاية "شبيك لبيك عبدك بين إيديك؛ مُرْ تُطع" ما عادت هذه الأسطوانة المشروخة تصلح لجيل الربيع العربي وجيل "أبو ثريا وعهد"، لأنه اقترب من الوصول إلى قناعة جديدة تنسف ما سبق: أنه هو المارد، ولكنه ليس المارد العبد، هو المخنوق في قمقم أو مصباح؛ مخنوق مع كرامته المطعونة كل لحظة من النظام العربي الرسمي الذي لا يمتلك إلا أجهزة أمنية قامعة وأدوات أخرى بها مقصات تقص الأحلام والتطلعات.
هذا الجيل المارد تفرك بمصباحه ألاعيب الأميركان وجنون التطرّف مع فتح شهية صهيونية لا تتوقف عند حد، كل هذا الفرك سيؤتي أُكله، وسيخرج الجيل الجديد راسماً لنفسه خرائطه وحاملاً بوصلته، وسيقول لكل الأحزاب العربية التي مارست دورها عبر السنوات العجاف ولم تستطع إلا أن تزيد البلاء بلاءً: خليكِ على جنب وانظري إليّ فقط.
صحيح أن مشهد فلسطين -والقدس تحديداً- سوداويٌّ في نظر البعض؛ لأنهم ينظرون لأميركا "كإله"، ولكن فلسطين بقدسها ليست حكاية شعب واحد لكي يُقهر وينام على هزيمة أبدية؛ إنها حكاية جيل جديد في شعوب عربية تعيش الألم نفسه واللهاث نفسه والقمع نفسه وسرقة الأحلام في وضح النهار. وإن حاول من حاول تأليه الأميركان وغيرهم؛ لكنّ الجيل المتشابه في شعوب عربية بذات الطعم والرائحة واللون سيخرج من قمقمه وسيطيح بالآلهة الكاذبة ويحطم الأصنام من جديد، ويفتح القدس وهو يغني: "الآن الآن وليس غداً".