المرأة المقدسية.. بين ثقافة المجتمع وممارسات الاحتلال
تلك العائلة الإسرائيلية التي استوطنت منزلنا يعرفها والدي، وفي هذا البيت تسكن ابنتهم التي كانت تلعب مع أولاد الحارة. دعتنا العائلة إلى البيت لتناول القهوة، ولكن أبي لم يحتمل أن يكون ضيفا في بيته.
هل أتكلم عن القدس التي ولدت فيها، وفيها عشت أيام طفولتي وكنت أتنقل بين أحيائها وأحياء القرى والمدن المجاورة؟ أم عن القدس التي أحيطت بجدار فصل عنصري، وأصبحت حدودها ضيقة، وبات التنقّل منها وإليها صعبا؟ فلا أختي التي تسكن في رام الله تستطيع زيارتي في بيتي، ولا صديقاتي اللواتي تعلمت معهن في رام لله يعرفن بيتي.
هل أتحدث عن القدس التي احتلت عام 1967، كما احتلت نابلس ورام الله والخليل وبيت لحم؟ أم عن القدس التي استثنوها حين جلسوا للمفاوضات في أوسلو؟ وكأن القدس من عالم آخر؛ أنشئت السلطة الوطنية الفلسطينية خارج نطاق القدس وليس لها في القدس أي صلة رسمية.
بتنا نحن أهالي القدس مجرد "سكّان" نحمل بطاقات إقامة في القدس، وعلينا أن نكون حذرين حتى لا نفقدها؛ فإن اخترنا السكن خارج القدس خسرناها، وإن غبنا عن المدينة فقدناها، وإن لم نستطع أن نثبت وجودنا فيها فقدناها أيضا.
نحن أهالي القدس مجرد "سكّان" نحمل بطاقات إقامة في القدس، وعلينا أن نكون حذرين حتى لا نفقد هذه الإقامة؛ فإن اخترنا السكن خارج القدس خسرناها |
إقامة في الوطن
نحن سكّان نحمل "إقامة" في "فندق" أقل من نجمة واحدة، ولكننا ندفع تكاليف فندق خمس نجوم، فلسنا مواطنين ولا نحمل إلا وثائق سفر "إسرائيلية" طبعت على صفحة من صفحاتها الإقامة، وعلينا أن نجددها كلّما أثبتنا أننا ما زلنا في القدس وندفع الضرائب لحكومة الاحتلال.
في القدس نساء متفرغات لإثبات إقامتهن وإقامة أولادهن وبناتهن حتى لا يخسرن الهوية الزرقاء (الإقامة)، لأننا إن خسرناها لا تملك السلطة الوطنية الفلسطينية حتى أن تعطينا هوية فلسطينية، وبالتالي نصبح بلا جنسية، وبلا عنوان ونفقد حتى حرية الحركة.
في القدس نساء يسكنّ في بيوت مع أسر ممتدة في قرن انتهى فيه زمن الأسر الممتدة، فلم تعد هناك أرض زراعية تجمع الأسرة، بل منزل ضيق يجمع العائلات لأنها لا تقوى على بناء أو شراء أو استئجار منزل آخر لأبنائها المتزوجين، فإجراءات استخراج تصاريح البناء للفلسطينيين مكلفة وفي معظم الأحيان غير ممكنة، كما تُصادَر الأرض بشكل يومي ويحل المستوطنون مكان السكان الأصليين.
في الأسر الممتدة تعيش النساء المقدسيات غريبات في منازلهن، يحافظن على لباسهن المتكامل طيلة النهار لأنهن يعشن مع إخوة الزوج ووالده وأولادهم وغيرهم، فتفقد هنا النساء الخصوصية، أو يرضين ببيت لا تتوفر فيه أدنى مقومات العيش.
مدارس ومرجعيات
في القدس تمّ تدمير العملية التعليمية للفقراء، فهناك مدارس خاصة محدودة المقاعد مخصصة لمن يستطيع أن يدفع أقساطها، في وقت لا تستطيع فيه هذه المدارس التوسع وزيادة صفوفها، فأسعار الأراضي باهظة وتراخيص البناء شبه مستحيلة.
نسبة التسرب في مدينة القدس هي الأعلى في كل مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا أدى إلى أن يصبح زواج الصغيرات والإدمان على المخدرات ظاهرة |
وفي المدينة مدارس مبانيها غير صالحة، فمثلا فيها مدارس حسني الأشهب (نسبة لشخصية كانت مكلفة بمتابعة مدارس القدس مع الأردن قبل فك الارتباط عام 1988) التب باتت اليوم تابعة بشكل غير مباشر لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، دون أن تمنح حق التوسع والبناء أو حتى تدريس المناهج الفلسطينية.
وفي القدس مدارس تسمى "مدارس المقاولات" يفترض أن تتبع بلدية القدس الإسرائيلية، لكنها أوكلتها لشركات تديرها مقابل مبالغ مالية تدفعها البلدية عن كل طالب أو طالبة، دون أن يترتب عليها التزامات من حيث الرقابة وجودة التعليم وغيرها، فكان التسرب وهدم العملية التعليمية.
لقد أصبحت نسبة التسرب في مدينة القدس هي الأعلى في كل مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا أدى إلى أن يصبح زواج الصغيرات والإدمان على المخدرات ظاهرة بين شباب القدس تغذيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي.
مشاكل جمة
البطالة والتسرب من المدارس والمخدرات، باتت ثالوثا تعمل عليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج، وأصبحت نتائجه وخيمة لا على العاطل عن العمل أو المدمن أو المتسرب من المدرسة فحسب، بل على المجتمع الفلسطيني بأسره، وعلى النساء والفتيات بشكل خاص.
هذا الثالوث جزء من خطة بلدية الاحتلال 2020، وتهدف من ورائها إلى تقليص نسبة العرب في القدس إلى 20% فقط. وللمضي في المخطط كان لا بد من التدمير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتدمير البنية التحتية، وكل هذا يعني:
أزمة سكن خانقة يدفع ثمنها السكان، ولا سيما الأكثر فقرا والنساء بشكل خاص، حيث تضطر المقدسية للعيش ضمن أسرة ممتدة، هي ليست أسرتها بالأساس، وتفقد بالتالي خصوصيتها وحريتها |
1- أزمة سكن خانقة يدفع ثمنها السكان، ولا سيما الأكثر فقرا والنساء بشكل خاص، حيث تضطر المقدسية للعيش ضمن أسرة ممتدة، هي ليست أسرتها بالأساس، وتفقد بالتالي خصوصيتها وحريتها.
2- زيادة العاطلين عن العمل والأسر المهددة بالفقر، ومع ذلك هم مطالبون بدفع فواتير وضرائب باهظة تكاد تكون الأكثر في العالم.
3- انتشار المخدرات بين الشباب، وهو ما يعني تحمل النساء مسؤولية وجود ابن مدمن مع ما يتطلبه ذلك من حماية لأخوات المدمن وموارد اقتصادية قد تدمر الأسرة.
4- انتشار المخدرات، وهذا يتم بطريقة مخطط لها؛ فالتسرب من المدارس مع انعدام فرص العمل يعطي فرصة للمدمن -وفق قوانين الاحتلال- للحصول على راتب مدمن، ضمن سياسة "ضمان دخل الفرد". وهنا يتعاطى الشخص جرعته ويذهب للفحص، وبعد شهر يطلب منه فحص آخر فيتناول جرعة أخرى، ويتكرر ذلك إلى أن يصبح الشاب مدمنا ليحصل على راتب مدمن.
5- راتب الإدمان السابق الذكر لا يكفي المدمن لشراء المخدرات، وهنا يبدأ العنف داخل الأسرة، والنساء والفتيات عادة هنّ الضحايا.
6- لم يتوقف الاحتلال عند ذلك بل هو يعمل على تغيير سياسة "ضمان دخل الفرد" إلى سياسة "ضمان دخل الأسرة"، وهذا يعني ببساطة أن تعمل زوجة المدمن مقابل تقاضيه راتب الإدمان.
وتضطر النساء للعمل في المزارع الإسرائيلية أو في خدمة المسنين وغيرها، وهنا تترك أسرتها لتديرها غالبا البنت الكبرى التي قد تحرم من التعليم لذات السبب أو تضطر للعمل بأجر زهيد.
7- انهيار العملية التعليمية، وهذا يقود إلى تسرب الأولاد من المدارس والتوجه إلى سوق العمل وبالتالي اعتقادهم أنهم جاهزون للزواج، وضحايا الزواج غالبا بنات أصغر سنا يفرض عليهن الزواج.
8- تزويج الصغيرات في القدس يكون أيضا نتيجة لإجبار الفتيات على ترك المدارس بسبب قلق الأهالي عليهن في شوارع القدس والتنقل في المواصلات العامة، وهنا يعني التسرب جاهزية الفتاة للقبول بأول فرصة زواج.
9- في القدس معاملات كثيرة: إنهاء أوراق التأمين، الضريبة، ضريبة الدخل، ضريبة المسقوفات والحصول على تخفيض عليها وغيرها، وفي هذه الدوائر تصطف النساء المقدسيات لإنجاز هذه المعاملات لأن أزواجهن غير قادرين على متابعة ذلك.
المقدسيات من ناحية هن المطالبات بحماية الأسرة من الضياع، ومن ناحية ثانية بحماية الأقصى، ومن ناحية ثالثة بتأمين احتياجات الأسرة |
10- أما المشكلة الكبرى في القدس فهي عندما تتزوج مقدسية من فلسطيني لا يحمل هوية القدس أو العكس. فإن هي عاشت معه في الضفة الغربية قد تفقد هويتها، أما هو فغالبا لا يستطيع دخول القدس إلا بشروط في الغالب معقدة، وهنا تصبح العائلة مشتتة.
مسؤولية رسمية
أمام كل هذه المصاعب التي يفرضها الاحتلال، نشهد تراجعا في الثقافة التي تحكم تحركات النساء والفتيات في القدس؛ فالمقدسيات من ناحية هن المطالبات بحماية الأسرة من الضياع، ومن ناحية ثانية مطالبات بحماية الأقصى، ومن ناحية ثالثة تأمين احتياجات الأسرة في حال غياب المعيل لأي سبب: اعتقال، إبعاد، إدمان.
فوق كل ذلك لا تمتلك المقدسيات الحق في تقرير المصير؛ فمن وجهة نظر المجتمع هن لسن صاحبات قرار لاستكمال التعليم أو رفض التزويج المبكر أو العنف المسلط عليهن من زوج أو أخ مدمن، من باب أن "الصبر واجب".
وما بين هذا وذاك تنتظر نساء القدس وفتياتها التغيير، والسؤال: من المسؤول عن هذا التغيير؟! الإجابة هي السلطة الوطنية الفلسطينية عبر توفير وسائل الصمود، والدول العربية عبر إنقاذ العملية التعليمية والاستثمار في القدس، والمجتمع الدولي عبر التصدي لسياسات التمييز العنصري والاستيطان ووقف الخطة 2020.