البكري.. مقدسي يحمل هموم اللاجئين ويوثقها بالصور

أسيل جندي–القدس

عندما اصطحب المقدسي طارق البكري الحاجة السبعينية نعمة شقديح القادمة من الأردن إلى قريتها المهجّرة بيت نبالا بقضاء الرملة، شعر بتوتر شديد أثناء سيرهما نحو القرية لأنه يعلم أن ملامحها قد دُمّرت بشكل شبه كامل.

لكنه تفاجأ فور وصولهما هناك بأن الحاجة نعمة استعادت ذكرياتها في القرية رغم تهجيرها منها وهي في السادسة من العمر. وخلال سيرهما مطولا في القرية التي بُنيت على أنقاضها مستوطنة إسرائيلية، مرّت شقديح بشجرة الدوم ووقفت بظلها وغنّت الأغنية التراثية الفلسطينية: "عالدوم خيا عالدوم، شو جاب امبارح لليوم.. امبارح بقت شمس، واليوم مطر وغيوم.. عالدوم دمي ودمك، يجمع شملي مع شملك.. خيّال وين مغرّب، ميّل وتريّح عندي.. لعملك كاسة شراب، سكر مع تمر هندي.. عالدوم خيا عالدوم، شو جاب امبارح لليوم".

ويصف مهندس الحاسوب الشاب طارق البكري (31 عاما) تلك الساعات بأنها أسعد لحظات حياته، منذ أن بدأ تكريس أوقاته -عام 2010- لتوثيق القرى المهجرة من شمال فلسطين إلى جنوبها، مما اضطره لتحويل عمله في مجال هندسة الحاسوب إلى وظيفة جزئية، ليحمل على عاتقه مسؤولية قضية اللاجئين وحق العودة.

‪البكري ساعد الحاجة نعمة في العودة إلى قريتها بيت نبالا بالرملة‬  (طارق البكري)
‪البكري ساعد الحاجة نعمة في العودة إلى قريتها بيت نبالا بالرملة‬ (طارق البكري)

توثيق مختلف
وبدأت حكاية البكري مع البحث والتوثيق بعد دراسته الجامعية في المملكة الأردنية وتوسع شبكة علاقاته مع لاجئين فلسطينيين يعيشون في مخيمات لبنان والأردن، وبعد تخرجه عاد لفلسطين، وكلما مرّ بقرية أو مدينة مهجّرة يتحدر منها أحد أصدقائه، ببادر إلى تصويرها وإرسال الصور لهم
.

وعن تجربته، قال طارق البكري: حاولتُ منذ البداية الابتعاد عن التوثيق النمطي بسرد المعلومات عن مساحة القرية وما تشتهر به من مزروعات وغيرها من المعلومات، ولجأت للمعلومات الخفيفة التي ربطتُّ بها الإنسان بالمكان ونشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي لجذب الجيل الشاب، وكانت دهشتي كبيرة بإقبال كافة الفئات العمرية على طريقة التوثيق المختلفة.

وتابع أن عشرات الرسائل انهالت على بريده الخاص في موقع فيسبوك، يطالبه أصحابها اللاجئون ممن يعيشون في الشتات بزيارة قراهم المهجرة، ومنهم من أرسل صورا لأرضه أو منزله قبل تهجير أجداده منه.

من هنا وُلدت مبادرة إنسانية جديدة عام 2011 أطلق عليها البكري اسم "كنّا وما زلنا"، يستخدم فيها الصورة القديمة لمساعدته في الوصول إلى منازل الفلسطينيين التي يسكنها الإسرائيليون حاليا.

ولا يكتفي البكري بذلك بل يطرق أبواب المنازل ويبلغ ساكنيها الحاليين بأنه عثر على سكانها الأصليين، وفي كثير من الحالات جاء فلسطينيون لاجئون يحملون جنسيات أجنبية خصيصا للبلاد، ليصطحبهم طارق إلى منازلهم التي رحّلوا عنها قسرا؛ ويجيب سكانها الحاليون عادة بعبارة "نحن شعب الله المختار وهذا المنزل هديتنا من الله".

تجوّل طارق بمبادرة "كنّا وما زلنا" في 22 دولة عربية وأوروبية حتى الآن، وهو يعرض -من خلال ندوة تفاعلية- مئات الصور بالأسود والأبيض لأماكن قديمة (حصل عليها عادة من أشخاص عاشوا قبل الاحتلال الإسرائيلي) ويقارنها بصور حديثة للمكان نفسه وما طرأ عليه من تهويد وتشويه للذاكرة والتاريخ.

‪طارق البكري)‬ منزل شكيب الدقاق في البقعة غربي القدس حيث عاد إليه حفيده ناصر الدقاق (
‪طارق البكري)‬ منزل شكيب الدقاق في البقعة غربي القدس حيث عاد إليه حفيده ناصر الدقاق (

توثيق الحضارة
وحرص الشاب المقدسي أيضا على توثيق الحضارة الفلسطينية المزدهرة قبل النكبة ومدى تطور المجتمع، بتوثيق دور السينما التي انتشرت حينها ووصل عددها في شارع جمال باشا بمدينة يافا وحده إلى ستة، بالإضافة إلى المسارح والصحف وازدهار الأدب والشعر، وهو ما يدحض الرواية الإسرائيلية القائلة إن هذه البلاد كانت فارغة قبل مجيء هذا الاحتلال الذي يدّعي إعمارها وإنعاشها.

وعن مسيرته المستمرة في البحث والتوثيق، قال: "أنا لست لاجئا ولا نازحا، لكنني أضع نفسي مكان كل شخص عاش هذه التجربة، وعندما أرافقهم في رحلتهم الأولى لقراهم ومدنهم بعد التهجير أفرح لفرحهم وأبكي معهم، ومن هنا أشعر بأن بقايا المنازل لها قيمة كبيرة ولا بد من توثيقها".

ومع مرور الأيام وتشتت ملايين اللاجئين الفلسطينيين منذ عقود في كافة دول العالم، ما زالت قوائم الملاحظات والزيارات التي يسجلها طارق يوميا بناء على طلب اللاجئين تطول، وسط إصراره على إكمال هذه المبادرة التطوعية، حتى يعود الفلسطينيون لموطنهم وينتهي وجع التطهير العرقي الذي يكتوون به منذ عام 1948.

المصدر: الجزيرة

إعلان