لمن يملك قلبا وذاكرة

على أرصفة الهمّ، وفي مقاهي الألم تجرَّع الحزنُ حيرةَ الناس. وحيدا سار في طرقات قلوبهم ولم يغادر فيها خريطة الوطن. كثيرون الذين يتحدّثون عن جنون العشق ولم يجرّبوه، كثيرون الذين يثمّنون الكلمة ولا يقولونها، وكثيرون الذين ينتظرون الشمس ولا يفتحون لها أبواب قلوبهم لتغمرهم بالضياء، غير أنّ هناك على أبواب اليقين قلّة تتنفس العشق بكلمات تحفر جنونها بما يشبه الإشراق، قلّة توضأت بالنور دماها، وسجدت في باحات البرَكة خطاها وهي تسير صوب المسجد المذبوح على أعين المصلّين، وقد امتدت لأفئدتهم السكاكين.
المسجد الأقصى يئن، وقلّة بأجسادهم يحيطونه، يبدّدون بالتسبيح وحدته ولا يغادرونه، ما ملكوا غير أنفاسهم فمنحوها لطُهره علّها تنجيه، وعلّها بدفئها تردُّ عن باحاته جليد الصمت وبرد الكلام، وعلّها تستثير حميّة المسلمين، وقد اشتدّ للدم المسفوك في العروق الغضب، فتمطرهم مآذنهم بالنفير؛ علّهم يجرّبون في الطريق إلى المقدس العزّةَ بالتكبير.
المسجد الأقصى يئنُ في مهد القلوب المكلومة بفقده كما الطفل الصغير، وتربت على كتفه أيدي أمهات ارتدين الجرأة وتمنطقن بالثبات، ويواجهن الحزن بصبر الأكفّ وقد ارتفعت في سماء الصوم بالدعاء. |
المسجد الأقصى يئنُ في مهد القلوب المكلومة بفقده كما الطفل الصغير، تربت على كتفه أيدي أمهات ارتدين الجرأة وتمنطقن بالثبات، ويواجهن الحزن بصبر الأكفّ وقد ارتفعت في سماء الصوم بالدعاء، ويلقين على عتباته أزهار الصبر وبقايا العمر، ويرابطن بالقرآن في باحاته وقد تجرّعن هزيمة قومهنّ، وما فترت همّتهن، ولا تراجعت خطواتهن، وقد صارت خرائط عودة وتاريخ انتصار، لم تُنكره العتمة وإنْ لم يحمله للناس ضوء النهار.
مرابطات رغم الجوع لكرامة العروبة ورغم الظمأ، مرابطات على جمر الانتظار وفوق رؤوسهن يتطاير رصاص المحتل بالموت كحبات المطر، مرابطات يواجهن بصمود الخطوة مِن حولهنّ الخطر، يسترجعن كلمات ملأت أسماعهن وهنّ يحتسين الصبر بكؤوس الصمت، فيتفجّر مِن بين شفاههن الكلام، وتنشب بين ضلوعهن نار ما عاد أحد يُطفئها، وما مِن أحد يملك أنْ يُسكتها وقد نطقت بأنشودة الحذر: "الأقصى في خطر".
عدوّنا مدجّج بالسلاح وبالخطط، عدوّنا يبتلع الأرض ويغيّر ملامح المكان، ويصادر حرّية الناس وجدران البيوت، وأحلام المقدسيّين بعودة النهار، ويهدم تاريخ المقدس بمعول الاحتلال، ويحاصر، ويحرق، ويطرد، ويهدد، ويبدّد زهر الرجولة بزرع الرذيلة في صفوف شبان رحلت عنهم أحلامهم، وضاق بهم وطن سُرق من بين أكفّهم، ففرّوا من أنفسهم على أجنحة الغياب، ليقعوا فرائس في شباك عدوّهم.
لا مكان على هذه الأرض لمن لا يملك ملامح؛ فإمّا أن تشبههم وتصمد من موقعك مثلهم بالمال وصمود الذاكرة بالدم المتدفّق على أسوار المقدس والكلمة الثائرة، وإمّا أن تذوب في كأس المهانة |
عدوّنا يسير بخطى محسوبة صوب حلمه بقدس كبرى تقهر إرادة المقدسيّين، وتحول دون استعادة القدس، ويحاول بخبثه إعادة رسم تفاصيل المدينة الصابرة، ويحاول إعادة رسم الأرقام من جديد، ويجلب المستوطنين من كل الأرض ليزرعهم في تراب المقدس، ويشجعهم بكل ما أوتي ليتكاثروا كفيروسات لا تجرّب الحياة إلا بزرع نفسها في جسد حيّ تسعى لزرعه بالموت؛ ولعلّ هذا ما يفسّر ارتفاع الخصوبة وتزايد عدد المواليد بين المستوطنين في بيت المقدس مقارنة بغيرهم في بقية المدن المحتلّة.
ليس هذا وحسب، بل يعمل عدوّنا على ضم مستوطنات وكتل استيطانية كمعاليه أدوميم وغوش عتصيون لمدينة المقدس، وذلك لترجح كفّة السكان لصالح الصهاينة، وتتغيّر الخريطة السكانية بارتفاع نسبة المستوطنين مقابل المواطنين المقدسيين داخل ما يسميه عدوّنا "القدس الكبرى"، وذلك بقرار سياسي وقانوني تضيع بموجبه ملامح المدينة، ويذوي صوتها العربي في ضجيج العابرين.
عدوّنا لا يخفي مراميه، ويشهر سلاحه في وجه الذاكرة الفلسطينيّة وقد تيقّن من صمودها على بوّابات القدس، ويريد انتزاع المسرى من قلوبنا وقد انتزع الأرض، لكنّ قلّة منا لا تزال تقاوم، وتتلقّى الطعنات وتقاوم، وتتكاثر الفيروسات العابرة على جلودهم وبين أظفارهم، لكنّهم يختارون الصمود. وعليك مثلهم أن تختار؛ لا مكان على هذه الأرض لمن لا يملك ملامح؛ فإمّا أن تشبههم وتصمد من موقعك مثلهم بالمال وصمود الذاكرة بالدم المتدفّق على أسوار المقدس والكلمة الثائرة، وإمّا أن تذوب في كأس المهانة، تتجرعك الأفواه الفاجرة، فلا مكان على هذه الأرض لمن لا يملك قلبا وذاكرة.
ولنا في القدس لقاء.