المزور الشريف

لولا سارة ابنته لما عرفه العالم، ولم يتعرف على قصته الغريبة، القصة التي تغير بها معنى مصطلح التزوير، فصار ذا غايات نبيلة، تعلي قيم الإنسانية والنضال ضد الظلم

هل سمعتم بمزور شريف؟ مزور إنساني يأبى الظلم ويعلي من قيمة الإنسانية؟

كلنا شاهدنا تلك الشخصية في الأفلام التي تجلس خلف مكتب، بإضاءة تتسلط على المكتب، ينظر إليك من خلف نظاراته فتعطيه المال ويسلمك الجواز، هكذا عرفنا المزور في الأفلام الذي يسعى خلف المال لتحقيق مصالح البشر باختلافها، لكننا ما عرفنا مزورًا طاف العالم من شرقه إلى غربه لينقذ بيديه آلاف البشر ويخلصهم من نير العبودية والظلم ويجنبهم خطر الموت، بل ويساعدهم في مسيرتهم الطويلة للتحرر من الاستعمار.

أدولفو كامينسكي، اليهودي الفنان، فنان ورسام وخبير أحبار، نجا من معسكرات النازية هو وأسرته بعد أن شاهد أمه تموت برصاص الجنود النازيين بأم عينيه، ولعل هذا المشهد هو من صنع الحكاية. فبعد ولادته و انتقاله لباريس مع أسرته، عمل في مصبغة وتأثر كثيرًا باللون وآلية صنعه، فأسس معملًا في البيت لشغفه في هذا المجال، وما هي إلا سنوات قليلة حتى رأى الجنود النازيين فوق رؤوسهم، لتأخذ حياته منحى آخر وينطلق في خدمة قومه، فقد كان أبوه ينوي السفر إلى الأرجنتين هربًا من بطش النازيين. بعد ذلك ذهب لمزور آخر ودار بينهم حوار عن الأحبار، اكتشف به موهبته من جديد، وبدأ في إعداد آلاف الوثائق المزورة لآلاف اليهود الهاربين.

لم تقف الحكاية هنا، فقد شارك مع قوات الثورة الفرنسية في حرب التحرير وتم تكريمه بعد النصر. ولكن هذا المزور الشريف انقلب على الفرنسيين بعد الحرب لسياساتهم في الهند الصينية والجزائر، وتوقف عن دعم اليهود لموفقه المبدئي من احتلال فلسطين، ورفضه للظلم حتى لو كان بنو قومه من يظلمون، فذهب للجزائر وشارك ثوارها ثورتهم بوجه الاستعمار، حيث زوَّر آلاف الوثائق للمطلوبين الجزائرين حتى لقب بالمجاهد كامينسكي. عاش كامينسكي بالخفاء بفنه وقدراته الاستثنائية ووظفها في خدمة الشعوب، فلم تقتصر خدماته عند الجزائر وفرنسا فحسب فقد ساعد العديد من حركات التحرر.

لولا سارة ابنته لما عرفه العالم، ولم يتعرف على قصته الغريبة، القصة التي تغير بها معنى مصطلح التزوير، فصار ذا غايات نبيلة، تعلي قيم الإنسانية والنضال ضد الظلم. فقد كتبت سارة قصة والدها في كتاب نشرته وأحدث ضجة حول هذه الشخصية التي ساعدت كل المظلومين الذين وصلهم. تفاصيل رائعة بلغة حكائية نرويها لتكونوا شاهدًا عليها في برنامجنا الجديد: "حكايات الحرب". استمعوا إلى الحكاية.

المصدر : الجزيرة