الأزمة الدستورية في موريتانيا.. الجذور والمآلات

الأزمة الدستورية في موريتانيا.. الجذور والمآلات



الأنانية السياسية
الضمائر النابضة
المتاجرة بالمصائب
الحلول المتصورة

لا تزال الأزمة الدستورية تلقي بظلال من الشك على التجربة الديمقراطية الرائدة التي بدأت في موريتانيا منذ عامين. وتكاد البلاد ينفرط عقدها اليوم بين جنرال معزول غلّب منطق القوة على قوة المنطق، ورئيس مخلوع متشبث بحقه الدستوري المنبثق من العقد الاجتماعي الجديد.

ثم دخل الإرهاب في الأيام الأخيرة طرفا في المعادلة الهشة، ليضيف مزيدا من التعقيد على مشهد معقد. وهذه نظرة على الأزمة الموريتانية، جذورا ومآلات.

الأنانية السياسية
لقد كشفت الأزمة الموريتانية في إطارها المحدود عن أزمة الأخلاق السياسية لدى النخبة العربية بشكل عام، وعن الأنانية السياسية الدفينة التي هي أكبر عائق أمام بناء شرعية سياسية في المجتمعات العربية.

فقد حصل الجنرال الغاصب للسلطة على دعم لا يستحقه من بعض القوى الموريتانية أعطاه شيئا من الثقة بالنفس والتمادي في الغي حتى الآن. ومن هذه القوى:

• الزعامات القبَلية التقليدية المعروفة بحيادها الأخلاقي وجشعها المالي، ولا أحد يتوقع من تلك الزعامات سوى السير مع كل حاكم ما دام قادرا على شراء الضمائر. ولما كان البرلمان الموريتاني مركز تجمع لهذه الزعامات القبَلية فلا غرو أن دعمت أغلبيته الانقلاب.

"
الأزمة الموريتانية كشفت في إطارها المحدود عن أزمة الأخلاق السياسية لدى النخبة العربية بشكل عام، وعن الأنانية السياسية الدفينة التي هي أكبر عائق أمام بناء شرعية سياسية في المجتمعات العربية
"

• معارضون سياسيون سابقون، كانوا في يوم من الأيام أمل شعبهم في التخلص من الاستبداد والفساد. ومن الواضح أن هؤلاء غلّبوا خلافاتهم الصغيرة مع الرئيس المنتخب على المصلحة الكبرى للوطن في بقاء النظام الدستوري، أو استغفلهم الجنرال بإطماعهم في تسليم سلطة لن يسلمها إلا راغما.

• بعض المثقفين الذين عاشوا عقودا من حياتهم في المجتمعات الغربية، وكان من المؤمل أنهم تعلموا منها شيئا من فضائل الفضاء المفتوح والمجتمع الحر. فبدا أنهم لم يتعلموا سوى تبرير الظلم وتشريع الاستبداد. ومن هؤلاء رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة الاغتصاب الحالية.

• أصوات من المؤسسة الدينية التقليدية، من أهمها صوت إمام أكبر مسجد جامع في العاصمة الموريتانية. فقد كشف هذا الإمام عن تلون وتملق عجيب وهو يدافع عن سلطة الجنرال بعد فترة وجيزة من تكفيره معارضي الرئيس المدني الذي انقلب عليه الجنرال.

ولولا الدعم من هذه القوى لانعقد إجماع غير منخرم ضد مطامح الجنرال، وعادت الشرعية الدستورية إلى ما كانت عليه خلال أيام. لكنها الأنانية السياسية والجشع والغفلة. وكم هو حق ما لاحظه المؤرخ الهمداني منذ قرون حينما قسم أتباع المستبدين إلى صنفين: طُمّاع ومغفلين.

الضمائر النابضة
ليس سرا أن الرئيس الموريتاني الشرعي سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قد جاء إلى منصب الرئاسة بدعم من الجنرال عزيز الذي رأى في خلفيته الصوفية ولين عريكته فرصة لإقامة سلطة مدنية شكلية يمسك بزمامها. لكن الرئيس المنتخب كشف عن مستوى من التشبث بالقواعد الدستورية فاجأ الجنرال المتربص، فكان الصدام حتميا.

بيد أن أهم عاصم من رجوع موريتانيا إلى عهد الاستبداد المقيت هو الموقف المبدئي الذي وقفته قوى عديدة داخلية وخارجية ضد الانقلاب. ومن أهم هذه القوى:

• عدد من الأحزاب السياسية، بعضها كان مشتركا في حكومة الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وبعضها كان خارجها، لكنها كلها اجتمعت على حماية النظام الدستوري. ومن هذه الأحزاب حزب "التحالف" ذو الميول العروبية، وحزب "تواصل" الإسلامي. وحسنا فعلت هذه الأحزاب، فالأمر أكبر بكثير من رئيس مخلوع أو جنرال مقال، والمكسب الديمقراطي يستحق الحماية بغض النظر عن الحاكم الظرفي.

"
المبدئية التي رفضت بها القوى الداخلية والخارجية الانقلاب تدل على أن بعض الضمائر لا تزال حية نابضة، وأن هذه الضمائر هي أهم سلاح ضد المنكر السياسي الذي ارتكبه الجنرال عزيز ورهطه وأعانهم عليه قوم آخرون
"

• الاتحاد الإفريقي الذي يهمه مصير موريتانيا وانسجامها الاجتماعي الداخلي، كما يهمه إرساء قواعد منطقية في تداول السلطة بصورة سلمية في القارة السمراء. وقد كان لموقف الاتحاد الإفريقي دور بارز في تخلي الجيش الموريتاني عن السلطة، والوفاء بوعود الديمقراطية بعد انقلاب عام 2005، كما أن لموقف الاتحاد الإفريقي تأثيرا قويا على الموقف الفرنسي.

• القوى الدولية التي رفضت الانقلاب منذ البدء مثل الولايات المتحدة، وفرنسا وكندا والاتحاد الأوروبي. ولهذه القوى كلمة في الشأن الموريتاني بحكم دعمها المالي للخزينة الموريتانية. لقد أدركت هذه القوى الدولية من خلال تتبعها للأعوام الأخيرة من حكم معاوية أن موريتانيا توشك أن تتحول إلى "دولة فاشلة" على شاكلة أفغانستان والصومال، بما يعنيه ذلك من تصدير العنف إلى أوروبا، وأن ليس من حل لذلك سوى بناء نظام دستوري مستقر.

إن المبدئية التي رفضت بها هذه القوى الداخلية والخارجية الانقلاب تدل على أن بعض الضمائر لا تزال حية نابضة، وأن هذه الضمائر هي أهم سلاح ضد المنكر السياسي الذي ارتكبه الجنرال عزيز ورهطه، وأعانهم عليه قوم آخرون، فبرروا لهم اغتصاب السلطة والعدوان على الشرعية جهارا نهارا تحت سمع وبصر العالم.

المتاجرة بالمصائب
وقد منحت الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجنرال عزيز منحة ثمينة بقتلها أحد عشر عسكريا موريتانيا ودليلهم المدني الأسبوع الماضي على تخوم الصحراء الموريتانية.

وهي حادثة بشعة تكررت من قبل في أواخر أيام الدكتاتور السابق معاوية ولد الطايع. وقد بدأ الجنرال عزيز حملة متاجرة رخيصة بهذه المصيبة والخطب الجلل، أملا في الحصول على دعم دولي -أو تفهم دولي على الأقل- لانقلابه على السلطة الدستورية.

فقد بادر الجنرال إلى طلب لقاء مع الملحق العسكري الأميركي في نواكشوط فور الإعلان عن مقتل العسكريين الموريتانيين، آملا أن يُحدث بذلك خرقا دبلوماسيا في جدار الحصار الدولي على سلطته المتضعضعة، لكنه لم يفلح في ذلك.

ولا يزال نهج المتاجرة هذا هو الخيط الأهم الذي يتشبث به الجنرال ورهطه حينما بدأ حبل الحصار الإقليمي والدولي يضيق حول أعناقهم يوما بعد يوم.

فقد صرح الأمين العام للمجلس الأعلى للدولة يوم 12 سبتمبر/أيلول بأن "الهجوم وتوابعه الدموية يبين أن موريتانيا في حاجة إلى دعم دولي لمحاربة الإرهاب"، ثم أضاف بنبرة تملق واضح أن "الحكام العسكريين الجدد على الأرجح هدف للقاعدة لأنه يُنظر إليهم على أنهم على صلة وثيقة بالغرب".

"
متاجرة الجنرال عزيز بملفات الإرهاب الحقيقية والوهمية تكرار بليد لمنهج الرئيس السابق معاوية في استدرار العطف والمال من الغرب, لكن ما لا يدركه الجنرال عزيز والأمين العام لمجلسه العسكري هو أن الغرب لم يعد مغفلا إلى تلك الدرجة
"

وهذا تكرار بليد لمنهج الرئيس السابق معاوية في المتاجرة بملفات الإرهاب الحقيقية والوهمية استدرارا للعطف والمال من الغرب. لكن ما لا يدركه الجنرال عزيز والأمين العام لمجلسه العسكري هو أن الغرب لم يعد مغفلا بتلك الدرجة.

فقد أصبح صناع القرار في الغرب يدركون جيدا أن الاستبداد والظلم وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي هو الذي يفتح الباب أمام جماعات العنف الدموية المتهورة، وأن الحل لمشكلات الإرهاب هو إقامة حكومات ديمقراطية تعكس إرادة الشعوب وتستجيب لمطالبها عبر قنوات الشرعية الدستورية وعبر وسائل التدافع السلمي.

لقد فرط الجنرال عزيز في أرواح العسكريين الموريتانيين الذين سقطوا بيد الغدر في شمال البلاد حينما جمّع قوة الجيش الموريتاني المتواضعة في حرسه الرئاسي، فسلب القوات المرابطة على الحدود شروط المقاومة والبقاء، وشغل أركان الجيش بالمعارك السياسية طمعا في الاستئثار بالسلطة والثروة.

وقد كان الأولى بالجنرال المترف أن يكون مرابطا على تخوم الصحراء يصارع العواصف الرملية والعطش والخوف حماية لأرواح بني وطنه كما كان يفعل أولئك الشهداء النبلاء المغدورون في شمال البلاد.

لقد استنزف الشعب الموريتاني طاقاته المنهكة في بناء جيش ليحميَه لا ليستعبده، ورسالة الذين امتهنوا مهنة القتال أن يذهبوا إلى ساحات النزال، لا أن يغرقوا في مؤامرات السياسة وصفقات التجارة.

الحلول المتصورة
ويمكن تصور أحد الحلول الثلاثة الآتية للأزمة الدستورية الموريتانية:

• أولا: مبادرة دولية يصدر بها قرار من مجلس الأمن الدولي، يكون امتدادا لقراره السابق المدين للانقلاب، ويتم بموجبها إرجاع الرئيس المنتخب إلى منصبه، أو إقناعه بالتخلي الطوعي عنه، بعد وضع الجنرال ورؤوس حكومته تحت طائلة عقوبات شخصية تحرمهم الاستمتاع بما اغتصبوه، دون أن ترهق كاهل الشعب المرهق أصلا.

ومن فوائد هذه المبادرة أنها ستكون فعالة بحكم الشرعية الدولية التي تقف وراءها، وإن ترتبت عليها انتخابات جديدة فستضمن الأمم المتحدة شفافيتها وخلوها من التزوير. ومن مساوئها ظهورها بمظهر التدخل الأجنبي السافر، وهو ما سيعطي للجنرال عزيز –شأن المستبدين في كل عصر- فرصة اللعب بمشاعر السيادة وبغض التدخل الخارجي.

• ثانيا: مبادرة عربية تقودها دولة قطر. وقد ورد في وسائل الإعلام اهتمام قطري بهذا الشأن. وليس من ريب أن لقطر المصداقية والكفاءة التي تمكنها من التقدم بهذه المبادرة وإنجاحها، خصوصا بعد نجاحها في حل المشكلة اللبنانية. لكن من غير غطاء دولي قد تتحول هذه المبادرة فرصة لكسب الوقت بالنسبة للجنرال المذعور، وغطاء للتسويف في إرجاع الشرعية، خصوصا أن الجامعة العربية التي قد تدخل على خط المبادرة القطرية ليست مهتمة بنشر الديمقراطية بكل أسف.

• مبادرة موريتانية خالصة، تتوافق بموجبها الأحزاب السياسية الموالية للانقلاب وتلك الداعية إلى استعادة الشرعية على الالتئام في مؤتمر وطني عام، يخرج بصيغة توافقية تضمن تنظيم انتخابات تحت إشراف حكومة توافق مؤقتة، وتعيد بناء المسار الديمقراطي الذي بدأ منذ عام 2005 من جديد.

"
الحل المتصور للخروج من الأزمة يكمن في مبادرة قطرية، تقتنع بها مبدئيا القوى السياسية الموريتانية، ثم تتبناها بعد ذلك الأمم المتحدة، فتدعو إلى مؤتمر وطني جامع في موريتانيا أو في قطر تشارك فيه الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي
"

والمشكلة في هذا الخيار أن من السهل على الجنرال ورهطه التلاعب به، تأخيرا للآجال، وتزويرا للانتخابات، وشراء للضمائر، دون خوف من أي رادع خارجي. وربما فتحت المبادرة المحلية الباب لرجوع اعل ولد محمد فال للسلطة وهو ابن عم الجنرال عزيز، ورجوعه بعده يعني ببساطة أن الجنرال عزيز خرج من الباب ودخل من النافذة.

والذي يظهر أن صيغة مركبة من المبادرات الثلاث هي الحل الأمثل. ويمكن تصور هذه الصيغة في شكل مبادرة قطرية، تقتنع بها مبدئيا القوى السياسية الموريتانية، ثم تتبناها بعد ذلك الأمم المتحدة، فتدعو إلى مؤتمر وطني جامع في موريتانيا أو في قطر تشارك فيه الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي.

ويحضر المؤتمرَ الرئيس المنتخب أو ممثل له، كما يحضره ممثل عن الجنرال عزيز، وممثلون من كافة الأحزاب السياسية الموريتانية. ويخرج المؤتمر بصيغة تضمن رجوع الرئيس المنتخب إلى منصبه، أو إقناعه بالتخلي الطوعي عنه، فإن كانت الأخيرة تم إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة، وتنصيب حكومة جديدة شرعية. وليس من مانع أن يمنح المؤتمر الجنرالَ وزمرته حصانة من المتابعة القضائية، فإنقاذ المستقبل أهم من المحاسبة على الماضي.

ومهما يكن من أمر، فإن بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه ليس خيارا لموريتانيا. لقد اكتوى هذا البلد بنار الاستبداد والفساد ثلاثة عقود، وبينما هو يتنفس الصعداء ويفتح قلبه لأنسام الحرية إذا بمغامر جموح يأتي تحت جنح الليل ليغتال الحلم.

فكل من يسعى لتثبيت سلطة الجنرال عزيز من القوى الداخلية أو الخارجية يرتكب جريمة بشعة في حق شعب مقهور، ويهدم دولة هشة من قواعدها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.